وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} فيهِ إيماءٌ إِلَى أَنَّ عَقِيدَتَهُمْ فِي آلِهَتِهم أَمْرٌ مُخْتَلَقٌ مُصْطَلَحٌ عَلَيْهِ، لَمْ يَأْمُرِ اللهُ بِهِ، لأَنَّ الِاتِّخَاذَ مَعْنَاهُ جَعْلُ الشَّخْصِ الشَّيْءَ لِنَفْسِهِ. وَقَدْ وُصِفَ الِاعْتِقَادُ هُنَا وَالْعِبَادَةُ بِأَنَّهُ اتِّخَاذٌ. والعِزُّ ما يُعزِّزُ المَرْءُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ مالٍ وأنْصارٍ وأعوانٍ وأَتْباعٍ، وقدِ اسْتُعْمِلَ المَصْدَرُ هُنَا للإشارةِ بأَنَّهم كانوا يَعْتَقِدونَ أَنَّ آلهتهم الأَصْنَامَ هِيَ العِزُّ نَفْسُهُ.
يُبَيِّنُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، في هذِه الآيةِ المُباركةِ ضَلالَ عَبَدَةِ الأَوْثانِ، مِنْ قُرَيْشٍ، وسُخْفَ عقولِهِمْ وَزَيْفَ عَقِيدتِهِمْ، بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ آلِهَةً يَعْبُدُونَها لِتُعِزَّهُم بَشَفَاعَتِها لهمْ عِنْدَهُ فتَنْصْرَهم، وَتُجِيرَهُم عَلَيْهِ وتُنْقِذَهُمْ مِنَ عَذابِهِ، وتكونَ واسَطِةً لَهُمْ، وَقَدْ حَكَى أَيضًا عَقيدَتَهُم هذِهِ بِقَولِهِ مِنْ سُورَةِ الزَّمَرِ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} الآيةَ: 3. وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ يونُسَ ـ عَليْهِ السَّلامُ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله} الآيةَ: 18. كَمَا اعْتَقَدُوا أَنَّها تَنْصُرُهم فِي الدُنْيا، فقالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} الآية: 54، منْ سورةِ هودٍ ـ عليْهِ السَّلامُ. كَمَا عَبَدَتْ قُرَيْشُ تِلْكَ الأَصْنَامَ وَالأَوْثانَ؛ لِيَتَعَزَّزُوا بِهَا، وَتَدومَ لَهُمْ الرِّئاسَةُ عَلَى القبائلِ العَرَبِيَّةِ باعْتِبارِهِم سَدَنَةُ تِلْكَ الآلهةِ المُنَصَّبَةِ في الكعبةِ المُشرَّفةِ عندَهمْ في مكَّةَ المُكَرَّمةِ، ولِذَلِكَ فقد قاوموا دينَ الإسلامِ بِشَرَاسَةٍ وَعُنْفٍ شَديدَيْنِ، لِأَنَّهُ دِينُ تَوْحِيدِ المَعْبُودِ الحَقِّ، وَهُوَ اللهُ ـ عَزَّ وَعَلَا، ونَبْذِ عبادةِ ما سواهُ، فخافوا إِنْهُمْ تخلَّوا عَنْ تِلْكَ الأَصْنَامِ التي يُؤَلِّهُها العَرَبُ أَنْ يَذْهَبَ عِزُّ قُرَيشٍ، وَتَدُولَ دَوْلَتُهُمْ، ويَتَلَاشَى سُلْطانُهم عَلى قَبَائلِ العَرَبِ، ويَخْسَرُونَ أَيْضًا مَا يَجْنُونَهُ مِنْ مَكَاسِبَ مَادِيَّةٍ وأَرباحٍ، بِمَا يُديرونَهُ مِنْ تِجَارَةٍ خِلالَ مَوَاسِمِ الحَجِّ.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً} الواوُ: هيَ للاسْتِئْنافِ، وَ "اتَّخَذُوا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنيٌّ عَلى الضَّمِّ لِاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ هي الأَلِفُ الفارِقةُ. وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مُقَدَّرةٍ مِنْ "آلِهَةً"، أَوْ بِمَحذوفِ مفعولٍ بِهِ أَوَّل لـ "اتَّخَذُوا". وَ "دُونِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، وَلفظُ الجلالةِ "اللهِ" مَجْرُورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَ "آلِهَةً" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ مَنْصُوبٌ، والمَفْعُولُ الأَوَّلُ مَحْذوفٌ لِدَلَالَةِ السِّياقِ عَلَيْهِ، والتَّقْديرُ: وَاتَّخَذُوا الأَصْنَامَ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللهِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ وتَعْليلٍ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "اتخذوا". وَ "يَكونُوا" فِعْلٌ مُضَارِعٌ نَاقِصٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ جَوَازًا بَعْدَ لَامِ "كي"، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ اسْمُهَا، والأَلِفُ للتفريقِ. و "لَهُمْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "عِزًّا"، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. و "عِزًّا" خَبَرُ "يَكونُ" منصوبٌ بِها، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِاللَّامِ، وَالتَّقْديرُ: لِكَوْنِهِمْ عِزًا لَهُمْ.