فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} أَيْ: فَلَمَّا اعْتَزَلَ إِبْرَاهِيمَ ـ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ، وَهَجَرَ أَرْضِهِمْ فِي العِراقِ، إِلى بِلادِ الشَّامِ، تَنْفيذًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، أَبْدَلَهُ اللهُ أَرضًا خَيْرًا مِنْ أَرضِهِم، وقومًا خَيْرًا منْهم. فأمَّا الأرضُ فهيَ الأَرْضُ المُقدَّسةُ (الشَّامُ)، فَأَقامَ فِيها وكانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى مَكَّةَ المُكَرَّمةِ، وأَمَّا القومُ فقد أَبْدَلَهُ مِنْهُمْ أَوْلادًا أَنْبِياءَ. قالَ بعضُ الحُكماءِ: مَنْ هاجَرَ فِي طَلَبِ رِضَاءِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، أَكْرَمَهُ ـ تعالى، في الدُّنْيَا والآخِرَةِ.
قوْلُهُ: {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} أَيْ: وَجَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ نَسْلِهِ سُلالَةً مِنَ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ، وَقَدْ كَانَتْ زَوْجُهُ سَارَةُ، لَا تَحْمِلْ فلمَّا أَصْبَحَتْ عَجُوزًا في سِنِّ اليَأْسِ، وَهَبَتْهُ جارِيَتَهَا هاجَرَ لَعَلَّهُ أَنْ يُرْزَقَ مِنْهَا الوَلَدَ، وَدَعَا إِبراهِيمُ رَبَّهُ فَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} الآيةَ: 100، مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ، فَاسْتَجَابَ اللهُ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} الآيةَ: 101، مِنْ نَفْسِ السُّورةِ، فَوَلَدتْ لَهُ هاجَرُ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ، فَلَمَّا حَمَلَتْ هاجَرُ وَوَلَدَتْ إِسْماعِيلَ، أُجِّجَتِ نارُ الغِيرَةِ فِي صَدْرَها، وَوَجَدَتْ في نَفْسِهَا، فَأَكْرَمَهَا رَبُّها فَحَمَلَتْ بِإِسْحَاقَ، ثُمَّ رُزِقَ إِسْحاقُ بيعقوبَ في حياةِ إبراهيمَ ـ عليهِمُ السَّلامُ جَمِيعًا، قالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى، قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، قَالُوا لَا تَخَفْ، إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ، فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} الآياتِ: 69 ـ 71، مِنْ سُورَةِ هود.
لَقَدْ كانَ هَذَا عَطَاءُ اللهِ لسَيِّدِنا إبراهيمَ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، بِمُقابَلَةِ مَنِ اعْتَزَلَهُمْ مِنَ الأَهْلِ والأَقْارِبِ، فَآنَسَ وَحْشَتَهُ مِنْ فِراقِ قوْمِهِ، وأَقْرَّ عَيْنَهُ بِوَلَدِهِ. فَإِنَّهُ لَمَّا أَيِسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ أَصْلِهِ، أَكْرَمَهُ اللهُ بِسُلالَةٍ مِنْ الأَنْبِياءِ مِنْ نَسْلِهِ، وَأَنْبَتَهُمُ اللهُ جَمِيعًا نَبَاتًا حَسَنًا.
قولُهُ تَعَالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} الفاءُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، وَ "لَمَّا" ظَرْفِيَّةٌ بِمَعْنَى حِينَ، شَرْطِيَّةٌ غَيْرُ جازِمَةٍ، مُتَعَلِّقَةٌ بِجَوَابِهَا. وَ "اعْتَزَلَهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمْيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَليْهِ السَّلامُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، وَالجُمْلَةُ: فِعْلُ شَرْطٍ لِـ "لَمَّا". و "مَا" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ عَطْفًا عَلَى ضَمِيرِ المَفْعُولِ بِهِ، أَوْ هِيَ نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ. و "يَعْبُدُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَسْماءِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ "ما" المَوْصُولَةِ فلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في مَحَلِّ النَّصْبِ إِنْ كانَتْ نَكِرةً مَوْصوفةً، والعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ، مَحْذوفٌ، والتقديرُ: مَا يَعْبُدونَهُ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فاعِلِ "يَعْبُدُونَ"؛ أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهِمْ مُجاوِزينَ اللهَ، و "دُونِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ وهوَ مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" اسْمٌ مجرورٌ بالإضافةِ.
قولُهُ: {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} وَهَبْنَا: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجملةُ جَوَابُ "لَمَّا" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ "لَمَّا" معَ شَرْطِها وجوابِها مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لَهُ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "وَهَبْنَا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "إِسْحَاقَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وَلَمْ يُنَوَّنْ لأَنَّهُ ممْنُوعٌ مِنَ الصَّرفِ بالعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ. وَ "يَعْقُوبَ" مَعْطوفٌ عَلَى "إِسْحَاقَ" مَنْصوبٌ مِثْلُهُ. وَ "كُلًّا" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ لِـ "جَعَلْنَا" مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ. و "جَعَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "نَبِيًّا" مَفْعُولُهُ الثاني مَنْصُوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "وَهَبْنَا" عَلَى كَوْنِها جَوَابُ "لَمَّا" الشَّرطِيَةِ غَيْرِ الجازِمَةِ، لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.