وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
قوْلُهُ ـ جَلَّ وَعَلَا: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} قالَهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الجُمَحِيُّ اسْتِهْزاءً بالدينِ وَتَكْذيبًا للقَوْلِ بالبَعْثِ، وَقَدْ كانَ مُنْكِرًا للبَعْثِ، فَقد أَخَذَ عَظْمًا بالِيَةً وَفَتَّتَها بأَصابِعِهِ قائلًا كَيْفَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّنا بَعْدَ أَنْ نموتَ ونصيرَ إِلَى مثلِ هَذِهِ الحالِ سَنُبعَثُ لِنَحْيا مِنْ جديدٍ حياةً أُخْرَى، قَالَ أُبَيٌّ ذَلِكَ بِطَريقِ الاسِتبعادِ والإِنْكارِ، لَا بِطَرِيقِ السُّؤالِ والاسْتِفْسارِ.
وَقَدْ أُسْنِدَ هَذا القَوْلُ إِلَى "الإِنْسان" لِيَشْمَلَ كُلَّ الجِنْسِ لِوُجُودِ هذا الحديثِ في مُجْتَمَعِ المُشْرِكِينَ وتَدَاوُلِهم هَذا القَوْلَ فِيما بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ جَميعُهم، كَمَا تَقُولُ: بَنُو فُلانَ فعَلوا كَذا وَإِنَّمَا الذي فعَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَأُسْنِدَ لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ صَادِرٌ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ هَذَا الْجِنْسِ، لِأَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْمُوعِ، مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ بَعْضُهُمْ. ومنْ ذَلِكَ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ في مُحاولةِ قَتْلِ خَالِدٍ بْنِ جَعْفَرٍ الْكِلَابِيُّ مِنْ قِبَلِ وَرْقَاءَ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ الْعَبْسِيُّ:
فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ ......... نَبَا بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدِ
فَأَسْنَدَ الضَّرْبَ إِلَى كلِّ بَنِي عَبْسٍ، مَعَ أَنَّهُ صَرَّحَ بَعْدَ ذِلِكَ بِأَنَّ الضَّارِبَ هُوَ وَرْقَاءُ، إِذِ السَّيْفُ كانَ بِيَدِهِ وَحْدَهَ.
جاءَ في أَسْبَابِ النُّزُولِ للوَاحِدِيِّ ص: (348)، أَنَّها نزلتْ في أُبيِّ بْنِ خَلَفٍ الجُمَحيِّ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَصْحَابِهِ، وَرَوَاهُ الكَلْبِيُّ عَنْ أَبي صَالِحٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وَقالَ ابْنُ جُريجٍ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، أخرجَهُ عنهُ ابنُ المُنْذِرِ. وَقِيلَ: فِي أَبِي جَهْلٍ، وكلُّ هَذِهِ الأقوالُ محتملةٌ لأنَّها هذِهِ المقولةَ كانتْ منتشرةً في مُجْتَمَعِهِمْ، يُردِّدُها غَيْرُ واحِدٍ مِنْهُمْ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "يَقُولُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. و "الْإِنْسَانُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. "إِئِذَا" الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهامِ الإِنْكَارِيِّ، و "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "لَسَوْفَ أُخْرَجُ"؛ لِأَنَّ اللامَ: تَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِـ "أُخْرَجُ" المَذْكُورِ بَعْدَهُ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَالتَقْديرُ: أَئِذا مَا مِتُّ أُبْعَثُ. و "مَا" زَائِدَةٌ. وَ "مِتُّ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، والجملةُ في محلِّ الجَرِّ بإضافةِ "إذا" إِلَيْها عَلَى كَوْنِها فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. و "لَسَوْفَ" اللامُ: حَرْفُ ابْتِداءٍ جِيءَ بِهَا لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ الإِنْكارِ. و "سَوْفَ" حَرْفُ تنفيسٍ واسْتِقْبَالٍ. و "أُخْرَجُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ (مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ)، ونَائبُ فاعِلِهِ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ (أَنَا) يَعُودُ عَلَى "الإِنْسانُ". وَ "حَيًّا" نَصْبٌ على الحالِ مِنْ فَاعِلِ "أُخْرَجُ" وَهِيَ حالٌ مؤكِّدَةٌ لِأَنَّ مِنْ لازِمِ خُروجِهِ أَنْ يَكُونَ "حَيًّا"، وَهُوَ كَقَوْلِهِ في الآيةَ: 33، مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ: {أُبْعَثُ حَيًّا}، والجُمْلَةُ دالةٌ عَلَى جَوَابِ "إِذَا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، أَوْ هِيَ الجَوَابُ، واللامُ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْديرُ: أَأُخْرَجُ حَيًّا وَقْتَ مَوْتِي، وَجُمْلَةُ "إِذَا" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "يَقُولُ" وَسَاغَ اجْتِمَاعُ اللَّامِ وَهِيَ تُمَحِّضُ الفِعْلَ للْحَالِ وَسَوْفَ وَهِيَ تُمَحِّضُهُ لِلْاسْتِقْبالِ؛ لِأَنَّ اللَّامَ هُنَا لِمُجَرِّدِ التَّوْكِيدِ، وَإِنَّمَا جُرِّدَتِ اللَّامُ مِنْ مَعْنَاهَا لِتُلائِمَ "سَوْفَ" دُونَ أَنْ تَجَرَّدَ "سَوْفَ" مِنْ مَعْنَاهَا لِتُلائِمَ اللَّامَ لِأَنَّهُ لَوْ عُكِسَ هَكَذَا لَلَغَتْ "سَوْفَ" إِذْ لَا مَعْنَى لَهَا سِوَى الاسْتِقْبالِ، وَأَمَّا اللَّامُ فَإِنَّهَا إِذَا جُرِّدَتْ مِنَ الحَالِ بَقِيَ لَهَا التَّوْكِيدُ فَلَمْ تُلْغَ.
"إذا" منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله تعالى "لَسَوْفَ أُخْرَجُ" تَقْديرُهُ: إِذَا مِتُّ أُبْعَثُ أَوْ أُحْيَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكونَ العاملُ فِيهِ "أُخْرِج" لأَنَّ مَا بَعْدَ لامِ الابْتِداءِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا. قَالَ أَبُو البَقاءِ العُكْبُريُّ: لأَنَّ مَا بَعْدَ اللَّامِ وَسَوْفَ لَا يَعْمَلُ فِيما قَبْلَهَا كَ "إنَّ". فقد جَعَلَ المانعَ مجموعَ الحَرْفَيْنِ: أَمَّا "اللامُ" فَمُسَلَّمٌ، وأَمَّا حَرْفُ التَّنْفيسِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ في المَنْعِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ التَنْفِيسِ يَعْمَلُ مَا بَعْدَهُ فِيمَا قَبْلَهُ. تَقُولُ: زَيْدًا سَأَضْرِبُ، وَسَوْفَ أَضْرِبُ، وَلَكِنْ فِيهِ خِلافٌ ضَعِيفٌ، والصَّحِيحُ الجَوَازُ، وَقد أَنْشَدُوا عَلَيْهِ:
فَلَمَّا رَأَتْهُ أُمُّنَا هَانَ وَجْدُهَا ............. وَقَالَتْ أَبُونَا هَكَذَا سَوْفَ يَفْعَلُ
فـ "هَكذَا" في البيتِ مَنْصُوبٌ بِـ "يَفْعَلُ" بَعْدَ حَرْفِ التَّنْفيسِ. وَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللامُ فِي قَوْلِهِ: "لَسَوْفَ" مَجْلوبَةٌ عَلى الحِكايَةِ لِكَلامٍ تَقَدَّمَ بِهَذَا المَعْنَى، كَأَنَّ قائِلًا قالَ للكافِرِ: إِذَا مِتَّ يَا فُلانُ لَسَوْفَ تُخْرَجُ حَيًّا، فَقَرَّرَ الكَلَامَ عَلَى الكَلَامِ عَلَى جِهَةِ الاسْتِبْعَادِ، وَكَرَّرَ اللَّامَ حِكايَةً لِلْقَوْلِ الأَوَّلِ. قالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّان: وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْديرِ، وَلَا أَنَّ هَذَا حِكَايَةٌ لِقَوْلٍ تَقَدَّمَ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الكَافِرِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى الجَحْدِ وَالاسْتِبْعادِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَامُ الابْتِداءِ الدَّاخِلَةُ عَلَى المُضَارِعِ تُعْطِي مَعْنَى الحَالِ فَكَيْفَ جَامَعَتْ حَرْفَ الاسْتِقْبالِ؟ قُلْتُ: لَمْ تُجَامِعْهَا إِلَّا مُخْلِّصَةً للتَّوْكِيدِ كَمَا أُخْلِصَتِ الهَمْزَةُ في "يَا اللهُ" لِلتَّعْويضِ، وَاضْمَحَلَّ عَنْهَا مَعْنَى التَعْريفِ. قَالَ أبو حيَّانٍ الأندلُسِيُّ: وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ اللَّامَ تُعْطِي الحَالَ مُخَالَفٌ فِيهِ، فَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ لا يَرَى ذَلِكَ يُسْقِطُ السُّؤالَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَمَا أُخْلِصَتِ الهَمْزَةُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَصْلَهُ إِلَّاهُ، وَأَمَّا مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَصْلَهُ: لَاه، فَلَا تَكُونُ الهَمْزَةُ فِيهِ للتَّعْويضِ؛ إِذْ لَمْ يُحْذَفْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ أَصْلَهُ إِلَّاهُ، وَحُذِفَتْ فَاءُ الكَلِمَة، لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّ الهَمْزَةَ فِيهِ فِي النَّداءِ لِلتَّعْويضِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ عِوَضًا مِنَ المَحْذوفِ لَثَبَتَتْ دائمًا في النِّداءِ وَغَيْرِهِ، وَلَمَاتَ جَازَ حَذْفُها فِي النَّداءِ، قَالوا: "يَا الله" بِحَذْفِها، وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ قَطْعَ هَمْزَةِ الوَصْلِ فِي النَّداءِ شَاذٌّ.
وَقرأَ الجمهور {أَئذا} بالاسْتِفْهامِ وهوَ اسْتِبْعادٌ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوان ـ بِخِلافٍ عَنْهُ، وجَمَاعَةٌ "إِذَا" بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الخَبَرِ، أَوْ لِلِاسْتِفْهامِ، وحَذَفَ أَدَاتَهُ لِلعِلْمِ بِها، وَلِدَلالَةِ القِراءَةِ الأُخْرَى عَلَيْهَا.
وقَرَأَ العامَّةُ: {لسوفَ أُخْرَجُ} وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ "لَسَأَخْرَجُ" بالسِّينِ دُونَ سَوْفَ، ونُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ أَيْضًا "سَأَخْرُج" دُونَ لَامِ ابْتِدَاءٍ، فَيَكونُ العاملُ في الظَّرْفِ نَفْسَ "أُخْرَج"، بحَسَبِ هَذِهِ القِراءَةِ.
وقرأ العامَّةُ: {أُخْرَجُ} مَبْنِيًّا للمَفْعول. وقرأَ الحَسَنُ، وَأَبو حَيَوَةَ، "أَخْرُجُ" مَبْنِيًّا للفاعِلِ.