وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} المُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا النُّبُوَّةُ؛ الَّتي أَعْطاهَا اللهُ تَعَالَى لِسَيِّدِنا إِبْراهيمَ وذُرِّيَّتِهِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، لِقَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ الزُّخرُف: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} الآية: 32. وذَلِكَ رَدًا عَلى قَوْلِهِم فِي الآيَةِ التي قَبْلَها: {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا القُرْآنَ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} الآية: 31. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: المُرادُ بالرَّحْمَةِ هُنَا هُوَ: النِّعْمَةُ، أَيْ: وَهَبَ اللهُ سَيِّدَنَا إِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتَهِ مَا شَاءَ مِنَ نِعَمِهِ، فَيَشْمَلُ النُّبُوَّةَ وَغَيْرَها، واللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} اللِّسَانُ: يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فإِنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ اللِّسَانَ وَتُرِيدُ بِهِ الْكَلَامَ، فَتُؤَنِّثُهَا وَتُذَكَّرُهَا. فَمِنْ إِطْلَاقِ اللِّسَانِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ مُذَكَّرًا قَوْلُ الْحُطَيْئَةَ:
نَدِمْتُ عَلَى لِسَانٍ فَاتَ ............... مِنِّي فَلَيْتَ بِأَنَّهُ فِي جَوْفِ عِكْمِ
قولُهُ: عِكْم، أَيْ: عِدْل، ويكونُ فِي الغالِبِ مِنَ الشَعرِ، أَوْ كِيسٌ، تُوضَعُ الأَشْياءُ وَالأَمْتِعَةُ فيهِ.
يَقولُ: نَدِمْتُ عَلى قَوْلٍ سَبَقَ مِنِّي، لَأَنَّ النَدَمَ إِنَّما يَكونُ عَلَى الفِعَالِ والكَلاَمِ، لَا عَلَى الأَعْضَاءِ وَالأَعْيَانِ.
أمَّا التَأْنيثُ فقَوْلِ أَعْشَى بَاهِلَةَ:
إِنِّي أَتَتْنِي لِسَانٌ لَا أُسِرُّ بِهَا .......... مِنْ عُلُوٍّ لَا عَجَبَ فِيهَا وَلَا سَخَرَ
وَيَعْني باللِّسانِ القَصِيدَةَ. وَمِنْهُ قَوْلُ مُرَقِّشٍ الأَكْبَرِ:
أَتَتْنِي لِسَانُ َبنِي عامِرٍ ...................... فَجلَّتْ أَحادِيثُهَا عنْ بَصَرْ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
لِسَانُ الشَّرِّ تُهْدِيهَا إِلَيْنَا ................ وَخُنْتَ وَمَا حَسِبْتُكَ أَنْ تَخُونَا
وأَيْضًا فالعَرَبُ تَسْتَعْمِل اللِّسَانَ بِمَعْنَى اللُّغَةِ كَمَا في قَولِهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى في الآيةِ: 4، مِنْ سُورَةِ إِبْراهِيمَ ـ عليْهِ السَّلامُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أَيْ بلُغَةِ قومِهِ.
وَلِسَانُ الصِّدْقِ هوَ المَدْحُ والثَّنَاءُ الْحَسَنُ الذي أَكْرَمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ سَيِّدَنا إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: وَذَلِكَ أَنْ جَمَعَ المَلَكَ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ. فَقَدِ اسْتِجابَ ربُّهُ لِدُعاءٍ دَعَاهُ فَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بالصَالِحِينَ * واجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرينَ} الآيتان: (83 و 84) مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
فَقَدْ عَبَّرَ بِاللِّسَانِ عَمَّا يُوجَدُ بِاللِّسَانِ، كَمَا عَبَّرَ بِالْيَدِ عَمَّا يُعْطَى بِالْيَدِ، وَهُوَ الْعَطِيَّةُ، فَصَيَّرَهُ قُدْوَةً حَتَّى ادَّعَاهُ أَهْلُ الْأَدْيَانِ كُلُّهُمْ، وَقَالَ عَزَّ مِنْ قائلٍ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ} الآية: 78، مِنْ سُورَةِ الحَجِّ.
وَقِيلَ: المُرادُ بِـ "لِسَانَ صِدْقٍ عليًّا" أَولادُهُ الذينَ جَعَلَهُمْ أَنْبِياءَ ومُرْسَلِينَ يَذَكِّرُونَ النَّاسَ مِنْ بَعْدِهِ وَيَعِظُونَهَمْ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الأَنْبِياءِ والمُرْسَلَينَ مِنْ بعدِهِ كانُوا مِنْ نَسْلِهِ مِنْ لَدُنْهُ إِلَى لَدُنْ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ؛ فَقدْ كانُوا لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا، حَيْثُ يَذْكُرُهُمُ النَّاسُ بِكِلٍّ خَيْرٍ واحْتِرامٍ وَتَجِلَّةٍ إِلَى قيامِ السَّاعةِ. ويأْتي اللِّسَانُ بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ أَيْضًا، ومِنْهُ قَوْلُ الشَّاعرِ:
أَتَتْنِي لِسَانُ بَنِي عَامِرٍ ...................... أَحَادِيثُهَا بَعْدَ قَوْلٍ نُكُرِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ المُرادُ بالَّلسانِ هَهُنَا هو صِدْقُ الحديثِ، وإِنْجازُ الوُعودِ، وَالوَفَاءُ بِالعُهودِ، واللهُ أَعْلَمُ.
فإِنَّهُ لَمَّا اعْتَزَلَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ الْخَلْقَ وَما يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ آلَهَةٍ وَهَبَ لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجعلَ كُلًّا منهما نَبِيًّا.
وَلمَّا تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ فِي اللهِ تَعَالَى: سَمَّاهُ اللهُ أَبًا لِلْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ} الآيةَ: 78، مِنْ سورةِ الحجِّ.
وَلمَّا تَلَّ للجَبِينِ وَلَدَهُ إِسْماعِيلَ ُريدَ أَنْ يَذْبَحَهُ، فَدَاهُ اللهُ تَعَالَى بِذِبحٍ عظيمٍ عَلَى مَا قَالَ مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الآياتِ: 103 ـ 107) صَدَقَ اللهُ العظيم.
وَلمَّا أَسْلَمَ نَفْسَهُ للهِ فَقَالَ: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} الآية: 131، منْ سورةِ البَقَرةِ. جَعَلَ اللهُ تَعَالَى النَّارَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا فَقَالَ: {قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلى إِبْراهِيمَ} الآية: 69، مِنْ سُورةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَلمَّا أَشْفَقَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَالَ: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} الآيةَ: 129، منْ سورةِ الْبَقَرَةِ، أَشْرَكَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الصَّلاةِ الإبْراهِيمِيَّةِ الَّتي يَتَلُوها المُسلِمونَ في الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وغيرها، فَيَقُولُون: (كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ).
ولَمَّا عَادَى كُلَّ الْخَلْقِ فِي اللهِ قَائلًا: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ} الآيةَ: 77، منْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا فقَالَ: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا} الآيةَ: 125، مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} الوَاوُ: عاطفةٌ، و "وَهَبْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجملةُ معطوفةٌ على جملةِ "وَهَبْنَا" الأولى منَ الآيةِ التي قبلَها على كونِها جَوَابَ "لَمَّا" الشرطيَّةِ غيرِ الجازمةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "لَهُمْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "وَهَبْنَا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ: علامةُ جمعِ المُذكَّر. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "وَهَبْنَا"، أَيْضًا. وَ "رَحْمَتِنَا" في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجرِّ، وهو مُضافٌ، و "نا" ضميرُ التَعظيمِ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} الوَاوُ: للعطْفِ، و "جَعَلْنَا لَهُمْ" مِثْلُ "وَهَبْنَا لَهُمْ" مَعْطوفٌ عَلَيْهِ. و "لِسَانَ" مَفْعُولٌ بهِ أَوَّلُ، مَنْصوبٌ بِـ "جعلْنا"، أَمَّا المفعولُ الثاني فَهوَ الجَّارُّ وَالمَجْرُورُ من قولِهِ: "لَهُمْ"، وَهوَ مُضافٌ، و "صِدْقٍ"، مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "عَلِيًّا" صِفَةٌ لِـ "لِسَانَ" مَنْصُوبَةٌ مِثْلُهُ.