وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا
(5)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} المَعْنَى: إنِّي قدِ اقْتَرَبَتْ وَفَاتيَ، وَخِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ بَعْدِي. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قوْلِهِ مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}. وَ "المَوَالِي" همْ عُصْبَةُ الرَّجُلِ وأَقْرَبُ قرابَتِهِ، والمُفردُ: مَوْلًى، بِمَعْنَى الْوَلِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْا، فِي قَوْلِهِ: "وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائي" قَالَ: الْوَرَثَةُ وَهُمْ عُصْبَةُ الرَّجُلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرائي" قَالَ: الْعُصْبَةُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، وَكَانَ مِنْ وَرَائهِ غُلَامٌ، وَكَانَ زَكَرِيَّا مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ وَفِي لَفْظٍ: مِنْ ذُرِّيَّةِ أَيُّوبَ. وَهُمْ بَنُو العَمِّ أَيْضًا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الفَضْلِ بْنِ العَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما:
مَهْلًا بَنِي عَمَّنا مَهْلًا مَوَالِيَنا ............. لا تَنْبُشُوا بَيْنَنَا مَا كانَ مَدْفُوْنا
وَقَولُ لَبِيدِ بْنِ رَبيعةَ:
ومَوْلَىً قد دَفَعْتُ الضَّيْمَ عنهُ ............... وقد أمْسَى بمنزلةِ المَضِيْمِ
وَ "مِنْ وَرائِي": مِنْ بَعْدِي، فَوَرَاءُ الشَّيْءِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مَا بَعْدَهُ، ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانيِّ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ........... وَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ لِلْمَرْءِ مَطْلَبُ
أَيْ: لَيْسَ بَعْدَ اللهِ مَطْلَبٌ لِلْمَرْءِ. فَمَعْنَى مِنْ "وَرائِي" في الآيَةِ: مِنْ بَعْدِ حَيَاتِي.
قولُهُ: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} هُوَ وَصْفٌ خَاصٌّ بِالْمَرْأَةِ، فالْعَاقِرُ مِنَ الإناثِ: هِيَ الَّتِي لَا تَلِدُ، وَلِذَلِكَ جُرِّدَ هذا الاسْمُ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، وَ "الْعَقْرُ"، وَ "العُقْرُ" ـ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا وَسُكُونِ الْقَافِ، هو المَصْدَرُ لَهُ. وَقد جِيءَ بِالفِعْلِ الماضيِ "كَانَ" لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ "الْعُقْرَ" وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهَا، مُتَمَكِّنٌ مِنْهَا، فَلِذَلِكَ حُرِمَ زكَريَّا ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، الْوَلَدَ مِنْهَا. وَكانَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا مِنْ نَسْلِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، فَهِيَ مَنْ سَبْطِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، وَكَانَ اسْمُها: (أَلِيصَابَاتُ).
قولُهُ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} أيْ: فهَبْ لي مِنْ عِنْدِكَ، فقد طلبَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ ربِّهِ عِنْدِيَّةً خاصَّةً، لِأَنَّهُ كانَ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ، بِتَقْدِيرِهِ، وَبخَلْقِهِ الْأَسْبَابَ وَمُسَبَّبَاتِهَا، وهذِهِ الأَسْبَابُ المعتادَةُ معدومةٌ في حالتِهِ، فَلِذَلِكَ سَأَلَهُ "وَلِيًّا" عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ في إِيجَادِ الْأَوْلَادِ، فَيكونُ الأمْرُ كَرَامَةً لَهُ وَهِبَةً خاصَّةً بِهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} الواوُ: للعَطْفِ، و "إِنِّي" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشبَّهٌ بالفِعلِ للتوكيدِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "خِفْتُ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تَاءُ الفَاعِلِ، وهي ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلٍّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَ "الْمَوَالِيَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍ متعلِّقٌ بِحالٍ مَحْذوفَةٍ مِنْ "الْمَوَالِيَ"، أَوْ بِمَا تَضَمَّنَهُ "الْمَوَالِيَ" مِنْ مَعْنَى الفِعْلِ، والتقديرُ: وَإِنِّي خِفْتُ فِعْلَ الْمَوَالِيَ، أَوْ خِفْتُ الذينَ يَلُونَ الأَمْرَ مِنْ وَرَائِي، ولَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِـ "خِفْتُ" لِفَسَادِ المَعْنَى، لَأنَّ الخَوْفَ وَاقِعٌ فِي الحالِ لَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، فَلَوْ عُلِّقَ بـ "خِفْتُ" لَلَزِمَ أَنْ يَقَعَ الخَوفُ مُسْتَقْبَلًا؛ أَيْ: بَعْدَ مَوْتِهِ وهوَ ظاهِرُ الفَسَادِ، كما ترى، هَذَا فِي قِراءَةِ الجُمهورِ عَلَى أَنْ يُرادَ بـ "وَرائي" مَعْنَى خَلْفِي وَبَعْدِي. وأَمَّا فِي قِراءةِ "خَفَّتْ" بالتَّشْديدِ فَيَتَعَلَّقُ الظَّرْفُ بِنَفْسِ الفِعْلِ، وَيَكونُ "ورائي" بِمَعْنَى قُدَّامي. وَالمُرادُ: أَنَّهمْ خَفُّوا قُدَّامَهُ وَدَرَجُوا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ بِهِ تَقَوٍّ وَاعْتِضادٌ. وَ "وَرَائِي" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعَلامَةُ جَرِّهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى آخِرِهِ لانْشِغالِ المَحَلِّ بِالحَرَكَةِ المُنَاسِبَةِ لِيَاءِ المُتَكَلِّمِ، وَهوَ مُضافٌ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ: فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ "إِنَّ" مِنْ قَوْلِهِ في الآيَةِ التي قَبْلَها: {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}.
قوْلُهُ: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} الواوُ: واوُ الحالِ، و "كانتْ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتْحِ، والتاءُ: للتأْنيثِ. و "امْرَأَتِي" اسُمُهُ مرفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضمَّةٌ مقدَّرَةٌ على آخرِهِ منعَ منْ ظهورِها انشغالُ المحلِّ بالحركةِ المناسبةِ للياءِ، وهو مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "عاقِرًا" خَبَرُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ فَاعِلِ "خِفْتُ".
قولُهُ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} الفَاءُ: هيَ الفَصيحَةُ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: يا إِلَهِي إِذَا عَلِمْتَ شَكْوَايَ إِلَيْكَ، وَأَرَدْتَ بَيَانَ مَسْأَلَتِي مِنْكَ فَإني أَقُولُ: "هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا"، و "هَبْ" فِعْلُ دُعاءٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى. و "لِي" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "هَبْ"، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِمحذوفٍ حالٍ مِنْ "وَلِيًّا"، لأَنَّهُ فِي الأَصْلِ صِفَةٌ للنَّكِرَةِ فَقُدِّمَ عَلَيْها. ويَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بـ "هَبْ". وَ "لَدُنْكَ" مَبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "وَلِيًّا" مَفْعولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ بـ "هَبْ"، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَةُ هذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولٌ لِجَوَابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ: "إذا" المُقَدَّرَةِ: فِي مَحَلَّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالَ".
قرأَ العامَّةُ: {خِفْتُ المَوَالِيَ} بِكَسْرِ الخاءِ وَسُكُونِ الفاءِ، وَهُوَ مَاضٍ مُسْنَدٌ لِتَاءِ المُتَكَلِّمِ. وَ "المَوالي" مَفْعُولٌ بِهِ بِمَعْنَى: أَنَّ مَوالِيهِ كانُوا شِرَارَ بَنِي إِسْرَائيلَ، فَخَافَهُمْ عَلَى الدِّين. وَقالَ أَبو البَقاءِ العُكْبُريُّ: لَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: خِفْتُ عَدَمَ المَوالِيَ أَوْ جَوْرَ المَوالي.
وقَرَأَ الزُّهْرِيُّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ سَكَّنَ يَاءَ "المَوَاليْ" وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَدْ تُقَدَّرُ الفَتْحَةُ فِي الياءِ وَالوَاوِ، وَعَلَيْهِ قِراءَةُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ في سُورَةِ المائدَةِ: {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} الآية: 89. وَقَرَأَ عُثْمانُ بْنُ عَفَّانٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، وابْنُ عَبَّاسٍ، وسَعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وسَعِيدُ بْنُ العاصِ، ويَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَعَلِيَّ بْنُ الحُسَيْنِ ـ رضِيَ اللهُ عنهم، في آخَرينَ: "خَفَّتِ" بِفَتْحِ الخاءِ والفاءِ مُشَدَّدَةً، وتَاءِ تَأْنِيثٍ، كُسِرَتْ لالْتِقاءِ السَّاكنينِ. وَ "المَوالِيْ" فاعلٌ بِهِ، بِمَعْنَى دَرَجُوا وانْقَرَضُوا بالمَوْتِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ في فضائلِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّان ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، مِنْ فِيهِ "وَإِنِّي خَفَّتِ المَوَالِي" يُثَقِّلُها، يَعْنِي بِنَصْبِ الْخَاءِ وَالْفَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ يَقُولُ: قَلَّتِ: "المَوَالِي". الدُرُّ المَنْثُورُ للإمامِ السُّيوطِيُّ: (5/480)
قرَأَ الجُمْهورُ: {ورائي} بِالْمَدِّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ـ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، "وَرايَ" بالقَصْرِ، وَلَا يَبْعُدُ ذَلِكَ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَصَرَ "شُرَكايَ" فِي سُورةِ النَّحْلِ، وَقَرَأَ في سورةِ العلق: {أَنْ رَاْه اسْتَغْنى}، كَأَنَّهُ كانَ يُؤْثِرُ القَصْرَ عَلَى المَدِّ لِخِفَّتِهِنَّ وَلَكِنَّهُ لا يَجوزُ عِنْدَ البَصْريِّينَ سَعَةً.