إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا
(96)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} آمَنُوا برَبِّهِم إِلَاهًا واحِدًا أَحَدًا، فردًا صَمَدًا، لم يلدْ ولمْ يُولدْ، لا نِدَّ لَهُ ولا شَرِيكَ، خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَبَّ كلِّ شيْءٍ وَمَليكَهُ، وآمَنُوا برُسُلِهِ جميعًا وكتُبِهِ كُلّها، وآمنوا باليومِ الآخِرِ والحِسابِ والجزاءِ، والجنَّةِ والنارِ، وبالقضاءِ والقَدَرِ خيرِهِ وشَرِّهِ مِنَ اللهِ، وآمنوا بِكلِّ ما جاءَ منْ ِعنْدِ اللهِ سُبحانَهُ وتَعَالَى إيمانًا لم يُخلطْهُ شكٌّ ولم يَشُبْهُ ريبٌ. و "عَمِلُوا الصَّالحاتِ" وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي تُرْضِي اللهَ ـ تَبَاركَ وَتَعَالى، مِنْ قِيَامِهِمْ بالطاعاتِ، وتَأْدِيَتِهِمُ العِبادَاتِ، وَمُتَابَعَتِهَمُ الشَّرِيعَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ الغرَّاء، فأحَلُّوا ما حلَّلَ، وحَرَّموا ما حرَّمَ، واجْتَنَبُوا مَعْصِيتَهُ وكلَّ ما يُغضِبُهُ، وراعوا حقوقَ عبادِهِ وحُرماتِهم، وأَحْسَنُوا فيما بَيْنَهم.
قولُهُ: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} أَيْ: سَيُحِبُّهُمْ وَيُحَبَّبُّهُمْ إِلَى المُؤْمِنِينَ، وَيَجْعَلُهُمْ يُحِبُّ بَعْضُهم بَعْضًا، فَيَتَرَاحَمُونَ فيما بَيْنَهم، وَيَتَعَاطَفُونَ بِمَا جَعَلَ اللهُ لِبَعٍضِهم فِي قُلوبِ بَعْضٍ. فَقدْ جَاءَ فِيما رَوَاهُ أَئمَّةُ الحَديثِ الشَّريفِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبَغضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ)). مُتَّفَقِ عَلَيْهِ. أَخْرَجَهُ مَالكٌ في المُوَطَّأِ برقم: (2743)، وَعَبْدُ الرَّزَّاق: (19673)، وأَحمَدُ: (2/267(7614)، والبُخارِيُّ: (7485)، ومُسلِم: (6798)، والتِّرمِذيُّ: (3161)، والنَّسائيُّ في "الكُبْرى": (7700 و 11937)، وأبو يَعْلَى: (6685)، وابْنُ حِبَّان: (365)، وابْنُ حِبَّان: (364).
وَأَخرج الْحَكِيم التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أَمِيرِ المُؤمنينَ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن وُدًّا" مَا هُوَ؟ قَالَ: ((الْمَحَبَّةَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ. يَا عَلِيٌّ! إِنَّ اللهَ أَعْطَى الْمَحَبَّةَ وَالْحَلَاوَةَ وَالْمَهَابَةَ فِي صُدُورِ الصَّالِحِينَ)).
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ، وَمُحَمَّدُ بنُ يُوْسُف الْفِرْيَابِي، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ الطَبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن وُدًّا" قَالَ: مَحَبَّةً فِي النَّاسِ فِي الدُّنْيَا.
وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن وُدًّا" قَالَ: مَحَبَّةً فِي صُدُورِ الْمُؤمنِينَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ ثَوْبَانٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ العَبْدَ لَيَلْتَمِسُ مَرْضاةِ اللهِ، فَلَا يَزَال كَذَلِكَ، فَيَقُولُ اللهُ لِجِبْريلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: (إِنَّ عَبدِي فُلَانًا يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنَي، فَرِضائي عَلَيْهِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: رَحْمَةُ اللهِ عَلَى فلَانٍ، وَيَقُولُهُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ويَقُولُهُ الَّذينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَقُولَهُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، ثُمَّ يَهْبِطُ إِلَى الأَرْضِ). قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ فِي كِتَابِهِ: "إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن وُدًّا" وَإِنَّ العَبْدَ لَيَلْتَمِسُ سَخَطَ اللهِ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالى: يَا جِبْرِيلُ إِنَّ فُلَانًا يُسْخِطُني، أَلَا وَإِنَّ غَضَبي عَلَيْهِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: غَضِبَ اللهُ عَلى فُلَانٍ، ويَقُولُهُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ويَقولُهُ مَنْ دُونَهُمْ حَتَّى يَقُولَهُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، ثُمَّ يَهْبِدُ إِلَى الأَرْضِ)).
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ: أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ مَحَبَّةٌ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، حَتَّى تَكونَ بِدْؤها مِنَ اللهِ تَعَالَى، يُنْزِلُهَا عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ، ثُمَّ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَوَجَدْتُ فِيهِ: "إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن وُدًّا".
وَأَخْرَجَ الحَكيمُ التِّرْمِذِيُّ (فِي نَوَادِرُ الْأُصُولِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ اللهَ أَعْطَى الْمُؤْمِنَ ثَلَاثَةً: المِقَةَ وَالمَلاحَةَ والمَوَدَّةَ والمَحَبَّةَ فِي صُدُورِ الْمُؤمِنِينَ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن وُدًّا".
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي (الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبي لَيْلَى قَالَ: كَتَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلِّدٍ سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا عَمِلَ بِطَاعَةِ اللهِ أَحَبَّهُ اللهُ فَإِذا أَحَبَّهُ اللهُ حَبَّبَهُ إِلَى عِبَادِهِ، وَإِنَّ العَبْدَ إِذَا عَمَلٍ بِمَعْصِيَةِ اللهِ أَبْغَضَهُ اللهُ، فَإِذا أَبْغَضَهُ اللهُ بَغَّضَهُ إِلَى عِبَادِهِ.
وَأَخْرَجَ الحَكيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لِكُلِّ عَبْدٍ صِيتٌ فَإِنْ كَانَ صَالِحًا وُضِعَ فِي الأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ َسَيِّئًا وُضِعَ فِي الأَرْضِ)).
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، والحَكيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبي أُمَامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((إِنَّ المِقَةَ مِنَ اللهِ، وَالصِّيتَ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِذا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا قَالَ لِجِبْريلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا، فَيُنادِي جِبْرِيلُ: إِنَّ رَبَّكُمْ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَتَنْزِلُ لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي الأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا قَالَ لِجِبْريلَ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، فَيُنَادي جِبْرِيلُ: إِنَّ رَبَّكُمْ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ فَيَجْرِي لَهُ البُغْضُ فِي الأَرْضِ)). و "المِقَةُ": المَحَبَةُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَهَنَّادٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: "سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن وُدًّا" قَالَ: يُحِبُّهُمْ وَيُحَبِّبُهُمْ .
وقَالَ هَرَمُ بْنُ حَيَّانَ الأَزْدِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (مَا أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ إِلَّا أَقْبَلَ اللهُ بِقُلوبِ المُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَرْزُقَهُ مَحَبَّتَهُمْ وَمَوَدَّتَهُمْ وَرَحْمَتَهُم). وَقَالَ بعضُهُم: (يَجْعَلُ لَهُمْ فِي قُلوبِ المَلائِكَةِ وُدًّا ثُمَّ في قُلُوبِ العِبَادِ).
فإنَّهُ لَمَّا خُتِمَتِ الْآيَةُ التي قَبْلَهَا بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ آتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُفْرَدِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِأَنَّهُمْ آتُونَ إِلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَمَنَّى الْمُوَرَّطُ فِيهِ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ وَيَنْصُرُهُ، وَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَأَنَّهُمْ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ حَالِ أُولئكَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُمْ يَكُونُونَ يَوْمَئِذٍ بِمَقَامِ الْمَوَدَّةِ وَالتَّبْجِيلِ. ومَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الرَّحْمَنَ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، سَيجْعَلُ لَهُم أَوِدَّاءَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 31، مِنْ سُورَةِ فُصِّلَتْ: {نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ}، وَيَجْعَلُ بَيْنَ أَنْفُسِهِمْ مَوَدَّةً كَمَا قَالَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَاف: {وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} الآيةَ: 43.
وَجِيءَ بِالْمَصْدَرِ "وُدًّا" لِيَفِي بِعِدَّةِ مُتَعَلَّقَاتٍ بِالْوُدِّ. وَفُسِّرَ أَيْضًا جَعْلُ الْوُدِّ بِأَنَّ اللهَ يَجْعَلُ لَهُمْ مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْخَيْرِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ. وَفُسِّرَ أَيْضًا بِأَنَّ اللهَ سَيَجْعَلُ لَهُمْ مَحَبَّةً مِنْهُ تَعَالَى، فَالْجَعْلُ هُنَا كَالْإِلْقَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى منْ سُورةِ طَهَ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} الآيةَ: 39.
وَهَذَا هوَ أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي تَفْسِيرِ الْوُدِّ، وَقَدْ ذَهَبَ فِيهِ جَمَاعَاتُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَقْوَالٍ شَتَّى مُتَفَاوِتَةٍ فِي الْقبُولِ.
أَمَّا في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ المُبَارَكَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عازِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ: ((قُلِ اللَّهُمَّ اجْعَل لِّي عِنْدَكَ عَهْدًا، وَاجْعَل لِّي عِنْدَكَ وِدًّا، وَاجْعَل لِّي فِي صُدُورِ الْمُؤمنِينَ مَوَدَّةً)). فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: "إِنَّ الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودًا" قَالَ: فَنَزَلَتْ فِي عَليٍّ ـ كرَّمَ اللهُ وجْهَهُ.
وَأَخْرَجَ الإمامُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُما: قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ: "إِنَّ الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودًا"، قَالَ: مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْمُؤمنِينَ.
وَرَوَى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّها نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، جَعَلَ اللهُ لَهُ في قُلوبِ العِبَادِ المَوَدَّةَ، لَا يَلْقاهُ مُؤْمِنٌ إِلَى وَقَّرَهُ، وَلَا مُشْرِكٌ، وَلَا مُنافِقٌ إِلَّا عَظَّمَهُ).
وَبناءً عَلَى هَذَا القَوْلِ قَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: (سُمِّيَ الوَاحِدُ بِاسْمِ الجَمْعِ لِدُخُولِ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ فِي مِثْلِ وَصْفِهِ وَحُسْنِ جَزَائِهِ).
وَأَخَرْجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بِنِ عَوْفٍ: إِنَّهُ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ ـ وَجَدَ فِي نَفْسَهُ عَلَى فِرَاق أَصْحَابه بِمَكَّة، مِنْهُمْ: شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنُ خَلَفٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: "إِنَّ الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودًا".
قوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد. و "الَّذِينَ" اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُها. و "آمَنُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السَّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلُهُ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ، والجُمْلةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الواوُ: للعَطْفِ، و "عَمِلُوا" مثلُ "آمنوا" معطوفٌ عَلَيْهِ ولهُ مثلُ إعرابِهِ، و "الصَّالِحَاتِ" مَفعولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الكسْرةُ لأَنَّهُ جمعُ المُؤنَّسِ السَّالِمُ.
قوْلُهُ: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} السَيَنُ: حرفٌ اسْتِقبالٍ، وَ "يَجْعَلُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. و "لَهُمُ" اللامُ: حرفُ جرِّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَجْعَلُ"، أَوْ مفعولٌ ثانٍ لِجَعَلَ على أَنَّ "جَعَلَ" بِمَعْنَى "صَيَّرَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. و "الرَّحْمَنُ" مِنْ أسْماءِ الجلالةِ فاعِلُهُ مرفوعٌ بالفاعليَّةِ. و "وُدًّا" مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ منصوبٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِه فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {وُدًّا} بِضَمِّ الواوِ. وَقَرَأَ أَبُو الحارِثِ الحَنَفِيُّ "وَدًّا" بِفَتْحِهَا، وَقرأَ جَناحُ بْنُ حُبَيْشٍ "وِدًّا" بِكَسْرِها، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ المَفْتُوحُ مَصْدَرًا، والمَضْمُومُ والمَكْسُورُ اسْمَيْنِ.