لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا
(94)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أَي: لَقْدَ أَحْصَى اللهُ تَعَالَى عَدَدَ جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ وَحَصَرَهُمْ، مُنْذُ بِدْءِ الخَلِيقَةِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَأَحَاطَ بِهِمْ وَعَرَفَ ذُكُورَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ، وَصِغَارَهُمْ وَكِبَارَهُمْ، بِحَيْثُ لا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْ حِيطَةِ عِلْمِهِ، وَقَبْضِةِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِيَّتِهِ، مَا وُجِدَ مِنْهُمْ وَمَا سَيُوجَدُ، وَمَا يُقَدَّرُ وُجُودُهُ لَوْ وُجِدَ، وَأَحْصَى أَعْمَالَهُمْ وَأَنْفَاسَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ، وَهُمْ جَمِيعًا تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِ وَقَضائِهِ وَقَدَرِهِ وتَدْبِيرِهِ، لَا خُروجَ لِشَيْءٍ عَنْهُ. وَفِي ذَلِكَ تَصْويرٌ لِقِيامِ رُبُوبِيَّتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا. وَعَدَّ أَشْخَاصَهُمْ وأَنْفَاسَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بْمِقْدارٍ. فَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مَعْلُومٌ، وَلَا يَنْفَكُّ عَنْ قُدْرَتِهِ ـ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُقالَ حُدُوثُهُ، مَوْهومٌ.
وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ في الآيةِ: 89، السَّابقةِ: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}، والآيةُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ لِتَهْدِيدِ الْقَائِلِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. فَضَمَائِرُ الْجَمْعِ عَائِدَةٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَمِيرُ في قولِهِ مِنَ الآيةِ: 88، السَّابقةِ: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا} وَمَا بَعْدَهُ. وَلَيْسَ عَائِدًا عَلَى قَوْلِهِ في الآيةِ التي قبلَها: {مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} الآيةَ: 93، أَيْ لَقَدْ عَلِمَ اللهُ ـ جَلَّ جلالُهُ العَظيمُ، كُلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَعَدَّهُمْ عدًّا، فَلَا يَنْفَلِتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ أَلَيمِ عِقَابِهِ، وشَديدِ عذابِهِ.
فهو ـ سُبْحانَهُ وتعالى، "المُحْصِي"، وَ "المُحْصِي" مِنْ أَسْمائِهِ الحُسْنَى ـ تَبَاركَتْ أَسْماؤُهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الأَئِمَّةُ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا، إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهِيَ: اللهُ، الْوَاحِدُ، الصَّمَدُ، الأَوَّلُ، الآخِرُ، الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ، الْخَالِقُ، الْبَارِئُ، الْمُصَوِّرُ، الْمَلِكُ، الْحَقُّ، السَّلاَمُ، الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ، الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، الرَّحْمَانُ، الرَّحِيمُ، اللَّطِيفُ، الْخَبِيرُ، السَّمِيعُ، الْبَصِيرُ، الْعَلِيمُ، الْعَظِيمُ، الْبَارُّ، الْمُتَعَالِ، الْجَلِيلُ، الْجَمِيلُ، الْحَيُّ، الْقَيُّومُ، الْقَادِرُ، الْقَاهِرُ، الْعَلِيُّ، الْحَكِيمُ، الْقَرِيبُ، الْمُجِيبُ، الْغَنِيُّ، الْوَهَّابُ، الْوَدُودُ، الشَّكُورُ، الْمَاجِدُ، الْوَاجِدُ، الْوَالِي، الرَّاشِدُ، الْعَفُوُّ، الْغَفُورُ، الْحَلِيمُ، الْكَرِيمُ، التَّوَّابُ، الرَّبُّ، الْمَجِيدُ، الْوَلِيُّ، الشَّهِيدُ، الْمُبِينُ، الْبُرْهَانُ، الرَّؤُوفُ، الرَّحِيمُ، الْمُبْدِئُ، الْمُعِيدُ، الْبَاعِثُ، الْوَارِثُ، الْقَوِيُّ، الشَّدِيدُ، الضَّارُّ، النَّافِعُ، الْبَاقِي، الْوَاقِي، الْخَافِضُ، الرَّافِعُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الْمُعِزُّ، الْمُذِلُّ، الْمُقْسِطُ، الرَّزَّاقُ، ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، الْقَائِمُ، الدَّائِمُ، الْحَافِظُ، الْوَكِيلُ، الْفَاطِرُ، السَّامِعُ، الْمُعْطِي، الْمُحْيِي، الْمُمِيتُ، الْمَانِعُ، الْجَامِعُ، الْهَادِي، الْكَافِي، الأَبَدُ، الْعَالِمُ، الصَّادِقُ، النُّورُ، الْمُنِيرُ، التَّامُّ، الْقَدِيمُ، الْوِتْرُ، الأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَةَ في سُنَنِهِ بِرَقَم: (3861)، وَالتِّرمِذِيُّ: (5/530، برقم: 3507)، وابْنُ حِبَّان: (3/88، برقم: 808)، والحاكمُ في مُسْتَدْرَكِهِ: (1/62، برقم: 41)، والبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ: (1/115، بِرَقم: 102).
وَاشْتِقَاقُ هَذَا الْفِعْلِ يَدُلُ عَلَيْهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبو إِسْحَاقٍ الاسْفَراينيُّ: وَمِنْهَا "الْمُحْصِي" وَيَخْتَصُّ بِأَنَّهُ لَا تَشْغَلُهُ الْكَثْرَةُ عَنِ الْعِلْمِ مِثْلَ ضَوْءِ النُّورِ وَاشْتِدَادِ الرِّيحِ وَتَسَاقُطِ الْأَوْرَاقِ فَيَعْلَمُ عِنْدَ ذَلِكَ أَجْزَاءَ الْحَرَكَاتِ فِي كُلِّ وَرَقَةٍ وَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى منْ سُورَةِ المُلْكِ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الآية: 14. وَجاءَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنهُما، أَنَّ مَعْنَى: "لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا" يُرِيدُ أَقَرُّوا لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَشَهِدُوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} اللامُ: مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، و "قد" حَرْفُ تَحْقيقٍ. و "أَحْصَاهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقدَّرِ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الألِفِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تَقْديرُهُ (هوَ) يَعودُ عَلَى "الرَّحْمَن" ـ سُبْحانهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ المَحْذوفِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب. و "عَدَّهُمْ" مثلُ "أَحْصاهُم" معطوفةٌ عليها ولها مثلُ إعرابها، و "عَدًّا" مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ منصوبٌ جِيءَ بهِ تَأْكيدًا للفِعْلِ "عَدَّ" وتَحْقيقًا.
وَقَرَأَ عبدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "لَقَدْ كَتَبَهُمْ وَعَدَّهُمْ"، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "لَقَدْ أَحْصَاهُمْ فَأَجْمَلَهُمْ عَدَدًا".