أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} أَيْ: تَكادُ السَّمَواتُ يَتَفَطَّرْنَ، وَالأَرْضُ تَنْشَقُّ، وَتَخِرُّ والجِبَالُ لِأَنَّ المُشْرِكينَ سَمُّوْا وَلَدًا للهِ ـ سُبْحَانَهُ. تَعَالى اللهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كبيرًا. فإنَّ مَعْنَى "دَعَوُا" هَوَ سَمُّوا، قالَ ابْنُ أَحْمَر الباهِلِيُّ:
أَهْوَى لَهَا مِشْقَصًا حَشْرًا فَشَبْرَقَها ... وَكُنْتُ أَدْعُو قَذَاهَا الإِثْمِدَ القَرِدَا
فقَوْلُهُ: "أَدْعُو قَذاها" أُسَمِّيهِ؛ وأَنْتَ تَسْأَلُ: مَا تَدْعُونَ هَذَا فِيكُمْ؟ أَيْ: مَا تُسَمُّونَهُ؟ فيُجيبونَكَ اسْمُهُ: فُلانُ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ دُعَاءِ الصَّوْتِ، أَيْ النِّداءِ. أَوْ أَنَّ المَعْنَى: مِنْ أَجْلِ أَنْ جَعَلُوا لِلرَّحْمنِ وَلَدًا، فإنَّ "دَعَوْا" يَأْتي بِمَعْنَى "جَعَلُوا" أيضًا كَمَا هُوَ فِي قَوْلِ أَحَدِهِمْ:
أَلَا رُبَّ مَنْ تَدْعُو نَصِيحًا وَإِنْ تَغِبْ .... تَجِدْهُ بغَيْبٍ غَيْرَ مُنْتَصِحِ الصَّدْرِ
قولُهُ تَعالى: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} أَنْ: حَرْفُ نَصْبٍ مَصْدَرِيٌّ. و "دَعَوْا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَمَاعَةِ، فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ وقدْ حُذِفَتِ الأَلفُ مِنْ آخرِهِ لِالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ، والأَلفُ للتفريقِ. و "لِلرَّحْمَنِ" اللامُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "دَعَوْا"، و "الرَّحْمَنِ" منْ أسماءِ الجلالةِ مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "وَلَدًا" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ لِـ "دَعَوْا" أمَّا الأَوَّلُ فهوَ مَحْذوفٌ والتقديرُ: مَعْبُودَهم لِأَنَّ "دَعَوْا" بِمَعْنَى سَمُّوا فيَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ اثْنَيْنِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِالْباءِ، ومحلِّ جُمْلَةُ قوْلِهِ: "أَنْ دَعَوْا" خَمْسَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لأَجْلِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ العامِلُ فيهِ "تَكادُ" أَوْ "تَخِرُّ" أَوْ "هَدًّا" أَيْ: تَهِدُّ لأَنْ دَعَوْا، وَلَكِنَّ شَرْطَ النَّصْبِ فِيها مَفْقُودٌ وَهُوَ اتِّحادُ الفاعِلِ فِي المَفْعُولِ لَهُ وَالعامِلِ فِيهِ، وسُقُوطُ اللامِ يَطَّرِدُ مَعَ أَنْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْ يَكونَ مَنْصُوبًا بِتَقْديرِ سُقوطِ اللَّامِ، وإِفضاءِ الفِعْلِ، أَيْ: هَدًّا لِأَنْ دَعَوْا، فعَلَّلَ الخُرُورَ بالهَدِّ، والهَدَّ بِدُعاءِ الوَلَدِ للرَّحْمَنِ. فَهَذَا مِنْهُ تَصْريحٌ بِأَنَّهُ منصوبٌ عَلَى نَزْعِ الخافِضِ، وَلَيْسَ مَفْعُولًا صَريحًا لَهُ.
ثانيها: أَنْ يَكونَ مَجْرورًا بنَزْعِ الخافِضِ، وَهوَ مَذْهَبُ الكِسائيِّ والخَليلِ بْنِ أَحْمَدٍ الفَرَاهِيدِيِّ.
ثالِثُ الوُجُوهِ: أَنْ يَكونَ بَدَلًا مِنَ الضَمِيرِ فِي "مِنْهُ" فيكونُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ الفرزدق:
عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ فِي القَوْمِ حَاتمًا ....... ـ عَلَى جُودِهِ، لَضَنَّ بالمَاءِ حَاتِمِ
بِجَرِّ "حاتِمِ" الأَخِيرِ بَدَلًا مِنَ الهاءِ فِي "جُودِهِ". وَقَدِ اسْتبعدَهُ أَبُو حيَّانٍ الأَنْدَلُسِيُّ، لِلفَصْلِ بَيْنَ البَدَلِ وَالمُبْدَلِ مِنْهُ بِجُمْلَتَيْنِ.
رابِعُها: أَنْ يَكونَ مَرْفوعًا بِـ "هَدًّا" أَيْ: هَدَّهَا دُعاءُ الوَلَدِ للرَّحْمَنِ. قالَهُ الزَّمَخْشَريُّ أَيضًا، وَاسْتَبْعَدَهُ أَبو حيّان أَيضًا لِأَنَّ الظاهرَ في "هَدًّا" أَنْ يَكونَ مَصْدَرًا تَوْكِيدِيًّا، والمَصْدَرُ التَّوْكِيدِيُّ لَا يَعْمَلُ، وَلَوْ فَرَضْنَاهُ غَيْرَ تَوْكِيديٍّ لَمْ يَعْمَلْ بِقِياسٍ، إِلَّا إِنْ كَانَ أَمْرًا أَوْ مُسْتَفْهَمًا عَنْهُ نَحْوَ: "ضَرْبًا زَيْدًا" و "أَضَرْبًا زَيْدًا" عَلَى خِلافٍ في ذلكِ. وَأَمَّا إِنْ كانَ خَبَرًا، كَمَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ: "هَدَّهَا دُعَاءُ الوَلَدِ للرَّحْمَنِ" فَلَا يَنْقَاسُ، بَلْ مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ نَادِرٌ لا يُعتَدُّ بهِ، كما هو في قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ مِنْ مُعلَّقتِهِ:
وُقُوفًا بها صَحْبِيْ عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ......... يَقولونَ: لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَمَّلِ
أَيْ: وَقْفُ صَحْبِي.
الوَجْهُ الخامِسُ: أَنَّهُ في محلِّ الرَّفعِ على أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبَتَدَأٍ مَحْذوفٍ، وقَدَّرَهُ العُكْبُريُّ بِـ: المُوْجِبُ لِذَلِكَ دُعاؤهم.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ "دَعَا" بِمَعْنَى "سَمَّى" فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، وَيَجُوزُ جَرُّ ثانِيهِمَا بالباءِ. كما في قولِ الشاعِرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُمِّ الحَكَمِ:
دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عَمْرٍو وَلَمْ أَكُنْ ................ أَخَاهَا وَلَمْ أَرْضَعْ بِلَبانِ
دَعَتْني أَخَاهَا بَعْدَ مَا كانَ بَيْنَنا .......... مِنَ الفِعْلِ مَا لَا يَفْعَلُ الأَخَوَانِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ "دَعَا" بِمَعْنَى نَسَبَ كمَا فِي قَوْلِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ)). وَكَمَا قالَ الشاعرُ بَشامَةُ بْنُ حَزْنٍ النَّهْشَلِيُّ:
إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نَدَّعِيْ لِأَبٍ ............... عَنْهُ وَلا هُوَ بالأَبْناءِ يَشْرِيْنا
يُريدُ: لَا نَنْتَسِبُ إِلَيِهِ.