أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} أَيْ: أَنَّهُ ـ سُبحانَهُ وَتَعَالَى سَلَّطَهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَسْتَوْلُوا عَلَيْهِم، فَتُغْريهِمْ بِالمَعَاصِي وَتَحُثُّهمْ عَلَيْها بِالتَسْويلاتِ والوَساوِسِ. كَمَا قَالَ مِنْ سورةِ النَّحْلِ: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} الآيةَ: 100. وَذَلِكَ هُوَ الابْتِلاءُ وَالاخْتِبَارُ، المَذْكورُ في قَولِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ العَنْكَبُوت: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} الآيةَ: 2. فإنَّ الشَّيْطانَ يُوَسْوِسُ للجَمِيعِ، كَمَا قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فيما رواهُ مُسلمٌ وغيرُهُ مِنْ حديثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلاَ يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ)). وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: وَإِيَّايَ، وَلَكِنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَلاَ يَأْمُرُنِي إِلَّا بِحَقٍّ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ: (1/385، برقم: 3648) والدارِمِي: (2734)، ومُسْلِمٌ: (8/139، برقم: 7210)، وغيرُهم.
فَأَمَّا المُؤْمِنُ باللهِ فإِنَّ لَهُ بإِيمانِهِ مَلْجَأٌ ومُعِينٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَعْراف: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُون} الآيةَ: 201.
وأَمَّا الكافِرُ فإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْهُ مَلْجَأٌ، وَلَا عَلَيْهِ مِنْ معينٍ لأَنَّهُ لا يُؤْمِنُ باللهِ العَلِيِّ العظيمِ، ولا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلى الْكَافرينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا"، قَالَ: كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} الآيَة: 36، مِنْ سُورَةِ الزُّخْرُفِ.
قوْلُهُ: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أَيْ: تَهُزُّهُمْ، وتُقْلِقُهُمْ، وَتُزْعِجُهُمْ، وَتُهَيِّجُهُمْ عَلَى المَعْصِيَةِ، وتُوَسْوَسُ لَهُمْ بُغْيَةَ ارْتِكابِهَا. فَالأَزُّ: الهَزُّ بِعُنْفٍ، والتَهْيِيجُ الشَّديدُ. مَأْخُوذٌ مِنْ أَزِيزِ الْقِدْرِ إِذَا اشْتَدَّ غَلَيَانُهَا حَتَّى يَسُمَعَ لَهُ صَوْتٌ. وَفِي الحَديثِ: ((فَكَانَ لَهُ أَزِيز))، أَيْ: للجِذْعِ حِينَ فَارَقَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. شَبَّهَ اضْطِرَابَ اعْتِقَادِهِمْ وَتَنَاقُضَ أَقْوَالِهِمْ وَاخْتِلَاقَ أَكَاذِيبِهِمْ بِالْغَلَيَانِ فِي صُعُودٍ وَانْخِفَاضٍ وَفَرْقَعَةٍ وَسُكُونٍ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ وتَأْكِيدُهُ بِالْمَصْدَرِ تَرْشِيحٌ. وَمِثْلُهُ النَزْغُ الواردُ في قَوْلِهِ ـ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَعْراف: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باِللهِ} الآيَةَ: 200.
فإِنَّ الأَزَّ وَالأَزيزَ، والهَزَّ وَالهزيزَ، والنَّزْغَ وَالاسْتِفْزَازَ كلُّها سَوَاءٌ، وَمَعْنَاهَا التَّحْريكُ وَالتَّهْيِيجُ وَشِدَّةُ الإقْلاقِ الإِزْعَاجِ، فَخَاطِرُ الشَّيْطانِ يَكونُ بِإزْعاجِ وَغُمَّةٍ، وَخَاطِرُ الحَقِّ يَكونُ بِرَوْحٍ وَسَكِينَةٍ، فَالحَمْدُ للهِ الذي مِنْهُ عَافَانَا وَإِلى دينِهِ لقويمِ هَدَانَا.
وبَعْدُ فالآيَةُ خِطابٌ لِحَضْرَةِ النَّبِيِّ ـ صَلاةُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، لِتَعْجِيبِهِ مِنْ حالِ المُشْركِينَ، وللتَّنْبِيهِ بأَنَّ كلَّ مَا يُبْدونَهُ مِنْ عَداوةٍ للهِ وَرَسُولِهِ ودينِهِ إِنَّما هُوَ بِوسْوسَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ وَتَحْريكٍ مِنْهُ، وإنَّ كيدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفًا، فهوَ وأَتباعُهُ مَخذولونَ، والنَّبِيُّ وَالمُؤْمِنُونَ مَعَهُ هُمُ المَنْصُورُونَ.
وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "تَؤُزُّهم أَزًّا": تُغْويهِمْ إِغْواءً.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصنْعانيِّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "تَؤُزُّهُمْ أَزًا" قَالَ: تُزْعِجُهم إِزْعاجًا إِلى مَعَاصِي اللهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِي فِي (الْوَقْفُ والابتِداءُ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: إِنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "تَؤُزُّهُمْ أَزًّا"، قَالَ: تُوقِدُهم وَقودًا. قَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ:
حَكِيمٌ أَمِينٌ لَا يُبَالِي بِخَلْبَةٍ ................... إِذا أَزَّهُ الأَقْوامُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "تَؤُزُّهُمْ" قَالَ: تُحَرِّضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} أَلَمْ: الهَمْزَةُ: لِلاسْتِفْهامِ التَقْريرِيِّ، و "لَمْ" حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ وَقَلْبٍ. و "تَرَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزومٌ بِها، وعلامةُ جزْمِهِ حذْفُ العِلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. و "أَنَّا" أَنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، و "نَا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "أَرْسَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نَا" المُعَظٍّمِ نَفْسَهُ، و "نَا" ضَمِيرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَ "الشَّيَاطِينَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. و "عَلَى" حرفُ جرٍّ متَعَلِّقٌ بِـ "أَرْسَلْنَا"، و "الْكَافِرِينَ" مَجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، والجُمْلَةُ خَبَرُ "أَنَّ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، وَجُمْلَةُ "أَنَّ" فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولِ "تَرَ".
قَوْلُهُ: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} تَؤُزُّهُمْ: فِعْلٌ مُضَارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِم، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هي) يَعُودُ عَلى "الشَّيَاطِينَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُوليَّةِ، والميمُ علامةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "أَزًّا" مَنصوبٌ على المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِنَ "الشَّيَاطِينَ".