وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} نَرِثُهُ: نَسْترجِعُ مِنْهُ كُلَّ مَا كُنَّا آتَيْنَاهُ إيَّاهُ في حَيَاتِهِ الدُّنيا مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، وَنَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْهُ عَنْدَ مَوْتِهِ، كما يَأَخُذُ الوَارِثِ مَا يَرِثُ مِنْ مُوَرِّثِهِ إِذَا مَاتَ. المُرَادُ بِـ "مَا يَقُولُ" مَا أُوتِيهِ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ في الحَيَاتِ الدُنْيا. وهوَ كَمَا تقولُ لِمَنْ طَلَبَ مِنْكَ أَنْ تُعْطِيَهِ كَذا وكذا، فتُجيبُهُ سأُعطيكَ مَا تقولُ وزيادةً، والمعنى على المُضِيِّ، أَيْ: سأُعْطيكَ مَا قُلْتَ وزِيادَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ" قَالَ: مَالَهُ وَوَلَدَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ" قَالَ: مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَذَاكَ الَّذِي قَالَ هُوَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ" قَالَ: مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} فِي حَرْفِ ابْنٍ مَسْعُودٍ: (وَنَرِثُهُ مَا عِنْدَهُ وَيَأْتينا فَرْدًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ.
قَوْلُهُ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} أَيْ: وَيَأْتينَا يَوْمَ القِيامَةِ فَرْدًا، لَا مَالَ يَصْحَبُهُ مِمَّا كانَ لَهُ في الحياةِ الدُنيا وَلَا وَلَدَ، ولا يُؤْتَى شَيْئًا مِنْ ذلكَ في الآخَرَةِ.
وَقِيلَ: المَعْنَى نَحْرِمُهُ مَا كانَ لِيَنَالهُ فِي الآخِرَةِ لَوْ أَنَّهُ آمَنَ وَنُعْطِيهِ لِغَيْرِهِ وهَذَا على القولِ بِأَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ في الآخِرَةِ نَصيبٌ، فَأَمَّا المُؤمِنُ فيُعْطَى نَصيبَهُ، وآمَّا الكافِرُ فيُحرَمُ مِنْهُ ويُعْطَى لِغَيْرِهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَقَدْ بينَّاهُ فيما سَبَقَ، فيكونُ تَفْسيرُ الإِرْثِ بِذَلِكَ تَفْسِيرًا بِاللازِمِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ في مَسْأَلَةِ التَوَالُدِ في الجنَّةِ: فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مُجاهِدٌ، وَطاوُسُ، وإِبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ، وعَطاءٌ، وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْراهِيمَ، بِعَدَمِ التَوَالُدِ في الجنَّةِ مُحْتَجَّينَ بِحَديثِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قالَ: ((أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَكُونُ لَهُمْ وَلَدٌ)). أَخْرَجَهُ التِرْمِذِيُّ: (2563). وَبِمَا أَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدٌ فِي مُسْنَدِهِ: (4/13، 14). عَنْ لَقِيطَ بْنَ عَامِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ خَرَجَ وَافِدًا إِلَى رَسُول اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَعَلَامَ نَطَّلِعُ مِنَ الْجَنَّةِ؟ قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَلَى أَنْهَارِ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَأَنْهَارٍ مِنْ خَمْرٍ مَا بِهَا مِنْ صُدَاعٍ وَلَا نَدَامَةٍ، وَأَنْهَارٍ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَفَاكِهَةٍ لَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَعْلَمُونَ وَخَيْرٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَأَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ)) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَلَنَا فِيهَا زَوْجاتٌ مُصْلِحَاتٌ؟. قَالَ: ((الصَّالِحَاتُ لِلصَّالِحِينَ تَلَذُّونَهُنَّ مِثْلَ لَذَّاتِكُمْ في الدُّنْيا وَيَلَذُّونَكُمْ، غَيْرَ أَنْ لَا تَوَالُدَ)). وأَخرجَهُ كثيرٌ مِنْ أئمَّةِ الحديثِ ومِنْ ذلكَ الروايةِ الطويلةِ التي رواها عَبْدُ اللهِ بْنُ الإمامِ أَحْمَدٍ، والحَاكِمُ وَالطَبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّان، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَق بْنِ مَنْدَهُ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الحُفَّاظِ، وَتَلَقَّاهُ الأَئِمَّةُ بالقَبُولِ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ مَنْدَهْ: لَا يُنْكِرُ هَذَا الحَديثَ إِلَّا جاحِدٌ، أَوْ جاهِلٌ، أَوْ مُخالِفٌ للْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ مُجاهِدٌ، وَعَطَاءٌ: قوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ البَقَرَة: {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} الآيةَ: 25، أَيْ مُطَهَّرَةٌ مِنَ الوَلَدِ، والحَيْضِ، وَالغائطِ، وَالبَوْلِ، وَنَحْوِهَا.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ بِالتَّوالُدِ، واحْتَجُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِذَا اشْتَهَى الْمُؤْمِنُ الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا يَشْتَهِي)). مُسْنَدُ أَحْمَد، ط/الرسالة: (17/117)، وَسَيُكَرَّرُ بِرَقَمِ: (11764). وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ: (2563) وَقَالَ: حَسَنٌ غَريبٌ، وَابْنُ مَاجَهْ: (4338)، والدَّارِمِيُّ (2/337)، وأَبُو يَعْلَى: (1051)، وَابْنُ حِبَّان: (7404)، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي "العَظَمَة": (587)، وَأَبُو نُعَيمٍ فِي "صِفَةِ الجَنَّةِ": (275) مِنْ طُرُقٍ، وفِي "ذِكْرُ أَخْبَارِ أَصْبهان": (2/296)، وَأَخْرَجَهُ هَنَّادٌ فِي "الزُّهْدِ": (93)، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي "المُنْتَخَبِ": (939)، والبَيْهَقِيُّ فِي "البَعْثُ وَالنُّشُورُ": (440 و 442)|، وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ فِي "حَادِي الأَرْوَاحِ" ص: (312) إِسْنَادُ حَديثِ أَبي سَعِيدٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، فَرِجَالُهُ مُحْتَجٌ بِهِمْ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ غَريبٌ جِدًّا. وَاحْتَجُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُولَدُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ، فَإِنَّ الوَلَدَ مِنْ تَمَامِ السُّرورِ؟. فَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((نَعَم، وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَمَا هُوَ إِلَّا كَقَدْرِ مَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ، فَيَكونُ حَمْلُهُ وَرَضَاعُهُ وَشَبَابُهُ)).
وَأَجَابُوا عَمَّا تَقَدَّمَ بِأَنَّ المُرَادَ نَفْيُ أَنْ يَكونَ تَوَالُدٌ، أَوْ وَلَدٌ عَلَى الوَجْهِ المَعْهُودِ فِي الدُنْيَا. وَقَالَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهيمَ فِي الحَديثِ السَّابِقِ: إِنَّهُ عَلَى مَعْنَى إِذَا اشْتَهَى المُؤْمِنُ الوَلَدَ فِي الجَنَّةِ كانَ حَمْلُهُ وَوَضْعٌهٌ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ كَمَا يَشْتَهِي، وَلَكِنْ لَا يَشْتَهِي، وتُعُقِّبَ بِأَنَّ (إِذَا) لِمُتَحَقِّقِ الوُقوعِ، وَلَوْ أُريدُ مَا ذَكَرَ لِقِيلَ: (لَوْ اشْتَهَى). وَقَالَ الإمامُ السَّفَارِينِيُّ فِي (البُحُورُ الزَّاخِرَةُ): حَديثُ أَبي سَعيدٍ أَجْوَدُ أَسَانِيدِهِ إِسْنَادُ التِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالغَرَابَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَديثِ أَبي الصِّديقِ التَّاجِيِّ، وَقَدِ اضَّطَرَبَ لَفْظُهُ فَتَارَةً يُرْوَى عَنْهُ (إِذَا اشْتَهَى الوَلَدَ) وَتَارَةً (أَنَّهُ يَشْتَهي الوَلَدَ)، وَتَارَةً (أَنَّ الرَّجُلَ لَيُولَدُ لَهُ)، وَ (إِذَا) قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِمُجَرَّدِ التَعْليقِ الأَعَمِّ مِنَ المُحَقَّقِ وَغَيْرِهِ، وَرَجَّحَ القَوْلَ بِعَدَمِ الوِلادَةِ بِعَشْرَةِ وُجُوهٍ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} الوَاوُ: حَرْفٌ للعَطْفِ، وَ "نَرِثُهُ" فِعْلٌ مُضَارٍعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمَ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وُجُوبًا تَقْديرُهُ (نَحْنُ) للتَّعْظيمِ يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {نَمُدُّ} مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا، عَلَى كَوْنِهَا مَعْطوفَةً عَلَى جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولًا بِهَ. وَالضَّمِيرُ فِي "نَرِثُهُ" مَنْصُوبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الخَافِضِ، والتَقْديرُ: وَنَرِثُ مِنْهُ مَا يَقُولُهُ. وَيَجُوزُ: أَنْ "ما" تَكوْنَ في مَحَلِّ النَّصْبِ بَدَلًا مِنَ الضَّميرِ فِي "نَرِثُه" بَدَلَ اشْتِمَالٍ. وَقَدْ قَدَّرَ بَعْضُهُمْ مُضافًا قَبْلَ "ما" المَوْصُولةِ، أَيْ: نَرِثُهُ مَعْنَى مَا يَقُولُ، أَوْ مُسَمَّى مَا يَقُولُ، وَهُوَ المَالَ والوَلَدَ؛ لِأَنَّ نَفْسَ القَوْلِ لَا يُوَرَّثُ. وَ "يَقُولُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازًا، تَقْديرُهُ: (هو) يَعُودُ عَلَى الكَافِرِ (العاصِ بْنِ وائِلٍ السَّهْمِيِّ)، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "مَا" المَوْصُولَةِ لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ، وَالعائدُ مَحْذوفٌ، والتَّقْديرُ: مَا يَقُولُهُ.
قولُهُ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} الواوُ: للعَطْفِ، و "يَأْتِينَا" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى آخِرِهِ لِثِقَلِها عَلَى الياءِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى الكَافِرِ، وَ "نَا" ضَمِيرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ، و "فَرْدًا" مَنْصُوبٌ عَلى الحالِ مِنْ فَاعِلِ "يَأْتِينَا"، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "نَرِثُهُ" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.