ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} النَزْعُ: الجَذْبُ، والأَخْذُ، وخَلْعُ الشَّيْءِ مِنْ أَصْلِهِ بِشِدَّةِ، كما قالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ آلِ عِمرانَ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} الآيةَ: 26، لأَنَّهُمْ مُتَمَسِّكينَ بِهِ حَريصِينَ عَلَيْهِ، وَيُقالُ: نَزَعَ عِنْدَمَا يَكونُ المَنْزوعُ مُتَماسِكًا مَعَ المَنْزوعِ مِنْهُ. وَمِنْهُ نَزْعُ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ.
وَ "مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ": مِنْ كُلِّ طائفةٍ وجَمَاعَةٍ وَفِرْقةٍ وَأُمَّةٍ وَأَهْلِ دِينٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَشِيعَةُ الرَّجُلِ: أَتْبَاعُهُ، وأَعْوانُهُ، ومُحازَبوهُ، ومُؤَيِّدوهُ، ومُحِبُّوهُ، وطائفتُهُ وَمُمَاثِلُوهُ في العَقيدَةِ والهَوَى، وَصِنْفُهُ، وَ "الشِّيعَةُ" هُمُ الطائفةُ وَالجَمَاعَةُ المُقْتَنِعُونَ بِرَأْيٍ باطِلٍ، المُتَواطِئُونَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} أَيْ: لَنَبْدَأَنَّ بِمَنْ هُمْ أَعْظَمُ للهِ مَعْصِيَةً، وأَشَدُّهم عَلَيْهِ تَمَرُّدًا وَعِنَادًا، فَنقْذِفُهم في النَّارِ أَوَّلًا، وَهُمُ الزُّعماءُ، وَالرُّؤسَاءُ، والكُبَراءُ، والقادَةُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ بحسَبِ مَرَاتِبِهم التي كانوا عَلَيْهَا فِي الدُّنيا. وَالعاتي: المُتَمَرِّدُ القاسِي فِي عُتُوِّهِ.
وَ "عِتِيًّا" عُتُوًّا، وتَمَرُّدًا، وَعِنَادًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي جَرْأَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فُجُورًا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَائِدُهُمْ وَرَأْسُهُمْ فِي الشَّرِّ يُرِيدُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ فِي إِدْخَالِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ جُرْمًا وَأَشَدُّ كُفْرًا، يُرِيدُ: الْأَعْتَى فَالْأَعْتَى.
وَالْعِتِيُّ، والعاتي: الذي صَارَ فِي القِمَّةِ مِنَ الطُغْيانِ الجَبَرُوتِ، بِحَيْثُ لَا يَقِفُ أَحَدٌ فِي وَجْهِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الكِبَرِ: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا} الآيَةَ: 8، مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ الكِبَرُ لَا حِيلَةَ فِيهِ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ.
وَذِكْرُ اسْمِهِ "الرَّحْمَن" هُنَا فِيهِ تَفْظِيعٌ لِعُتُوِّهِمْ، لِأَنَّ شَدِيدَ الرَّحْمَةِ بِخَلْقِهِ واسِعَها، حَقِيقٌ بِالشُّكْرِ لَهُ، لَا بِالْكُفْرِ بِهِ، وَالأَجْدَرُ بِهِمْ أَنْ يتَّصِفُوا بالإيمانِ والإسْلامَ وَالإِحْسَانُ، لَا الكُفْرِ والإِشْراكِ والعِصْيَانِ، وَالتَجَبُّرِ والعُتُوِّ وَالطُّغْيَانِ.
قولُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وَترتيبٍ وَتَرَاخٍ. و "لَنَنْزِعَنَّ" اللامُ: هي المُوَطِّئَةُ للقَسَمِ. و "نَنْزِعَنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ لِاتِّصالِهِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثقيلةِ، في محلِّ الرَّفعِ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ: ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (نحن) للتعظيمِ يَعودُ عَلَى اللهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ لا مَحَلٌّ لها مِنَ الإِعْرابِ لأنَّها مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلِةِ "لَنُحْضِرَنَّهُمْ" عَلَى كونَها جوابَ القَسَمِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَنْزِعَنَّ"، و "كُلِّ" مَجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، و "شِيعَةٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} أَيُّهُمْ: أَيُّ: اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى "الذي" و "مَا" و "مَنْ" مَبْنِيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُوليَّةِ لِـ {ننزِعَنَّ}، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والميمُ لتذْكير الجَمْعِ. وَالْغَالِبُ أَنْ يُحْذَفَ صَدْرُ صِلَتِهَا فَتُبْنَى عَلَى الضَّمِ. وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: أَيُّهُمْ هُوَ أَشَدُّ عِتِيًا عَلَى الرَّحْمَنِ. وَهَذا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَهوَ الأَظْهَرُ، وقدْ بُنِيَتْ عِنْدَهُ لِخُرُوجِهَا عَنِ النَّظائِرِ، وَ "أَشَدُّ" خَبَرٌ مَرْفُوعٌ لِمُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْميَّةُ صِلَةٌ لِـ "أَيُّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ. و "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَشَدُّ"، ولفظُ اسْمِ اللهِ "الرَّحْمَنِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "عِتِيًّا" منصوبٌ على التَمْيِيزِ مُحَوَّلٌ عَنِ المُبْتَدَأِ المَحْذوفِ الذي هُوَ "أَشَدُّ" مَنْصُوبٌ بِاسْمِ التَّفْضِيلِ، وَالأَصْلُ عُتُوُّهُ، أَيْ: جَرَاءَتُهُ عَلى الرَّحْمَنِ أَشَدُّ مِنْ جَرَاءَةِ غَيْرِهِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {أَيُّهم}، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَمُعاذُ بْنُ مُسْلِمٍ أَسْتَاذُ الفَرَّاءِ، وزائدَةُ عَنِ الأَعْمَشِ: "أَيَّهم" بالنَّصْبِ. وَعَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ إِعْرَابُهَا وبِنَاؤُها.