أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ} جَوَابٌ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، على سؤالِ ذَلِكَ الكافِرِ، المُنْكِرِ للبَعْثِ الذي سَبقَ الحديثُ عنْهُ في الآيةَ: 66، السَّابقةِ، فَهَذِهِ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: {يَقُولُ الْإِنْسانُ} مِنَ الآيَةِ التي قَبْلَها، أَيْ: أَلَا يَذْكُرُ هَذَا الإِنْسَانُ الذي أَنْكَرَ الْبَعْثَ، وَتَعَجِّبَ مِنْ كيفيَّةِ إِعَادَتِهِ إِلَى مَا كانَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَفْنَى جِسْمُهُ ويَتَلَاشَى. وَلكنْ: {إِنَّمَا يَتذكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ} الآية: 19، مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ، والآيَةَ: 9، مِنْ سَورةِ الزُّمَرة.
والمُرادُ بالذِكْرِ هُنَا التَذَكُّرُ والتَّفَكُّرُ، وَقَدْ أَظْهَرَ في مَقامِ الإِضْمَارِ فأَعَادَ "الإِنسان" زِيَادَةً في التَقْريرِ وَالإِشْعَارِ بِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الإِنْسانِ أَنْ يَتَفَكَّرِ فِيما جَرَى عَلَيْهِ مِنْ شُؤونِ خلقِهِ وتَكوينِهِ ليمنعَهُ ذَلِكَ مِنَ القَوْلِ السابقِ الذي أَنْكَرَ فيهِ البَعْثَ وهَزِءِ بِمَنْ يقولُ بِهِ.
قولُهُ: {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ} يُذكِّرُ اللهُ تَعَالَى الإنْسانَ المُنْكِرَ للبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، المُتَعَجِّبَ مِنْ كَيْفِيَّةِ إِعَادَتِهِ إِلَى الحَيَاةِ مَرَّةً ثانِيَةً بِأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالىَ قدْ خَلَقَهُ مِنْ قَبْلُ، والخَلْقُ: هُوَ الإِيجادُ مِنَ العَدَمِ.
جاءَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ ما رواهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَآذَانِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَنِي. أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي؛ وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ آخِرِهِ. وَأَمَّا أَذَاهُ إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ: إِنَّ لِي وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ: (2/393، برقم: 9103)، والبُخاريُّ: (4/129، برقم: 3194)، و (6/222، برقم: 4974)، والنَّسَائي: (4/112)، وفِي "السُّنَنِ الكُبْرَى" (2216 و 11275 و 7620)، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَ "مِنْ قَبْلُ" أَيْ: مِنْ قَبْلِ الحالَةِ الَّتي هوَ فِيها وهِيَ حَالَةُ وُجودِهِ في هَذِهِ الحياةِ كائنًا حيًّا. و "قبلُ" اسْمٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُلَازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ، فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ، وَاعْتُبِرَ مُضَافًا إِلَيْهِ مُجْمَلًا، وَلَمْ يُرَاعَ لَهُ لَفْظٌ مَخْصُوصٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، بُنِيَتْ "قَبْلُ" عَلَى الضَّمِ، وَكَذلِكَ هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الرُّومِ: {للهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} الآيَةَ: 40.
قَوْلُهُ: {وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} أَيْ: خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ كُلِّ حَالَةٍ هُوَ عَلَيْهَا، وَهوَ إِنْكَارٌ عَلَى الْكَافِرِ أَنْ يَقُولُوا ما قالَ دوَنَ أَنْ يَتَذَكَّرَ النَّشْأَةَ الْأُولَى، فَهي أَعْجَبُ وأَغْرَبُ لأَنَّهُ لم يَكُنْ حِينَئِذٍ شَيْئًا أَبَدًا، وَذَلِكَ عِنْدَ الَّذِينَ يَجْرُونَ فِي مَدَارِكِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الْعَادَةِ، فَإِنَّ الْإِيجَادَ عَنْ عَدَمٍ، دونَ سَبْقِ مَثَّالٍ، أَدْعَى للعَجَبِ وأَولى بالِاسْتِبْعَادِ والنَّفْيِ، مِنْ إِعَادَةِ مَوْجُودٍ كَانَ لَهُ مِثالٌ مِنْ قَبْلُ. وَلَكِنَّ هَيْكَلَهُ فَسَدَ وَتَغَيَّرَ تَرَكِيبُهُ. وقالَ مِنْ سُورَةِ يَس: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآيةَ: 79، وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى الشَّاهِدِ، وَإِنْ كَانَ الْقَادِرُ قادِرًا في الحالَيْنِ، وَالْأَمْرَانِ عندَهُ سَوَاءٌ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ} الهمزَةُ هُنَا لِلاسْتفهامِ الاسْتِنْكارِيِّ التَّوْبِيخِيِّ، وهي مُؤَخَّرَةٌ هُنَا عَنْ حَرْفِ العَطْفِ تَقْديرًا، وَهُوَ قوْلُ جُمْهُورِ المُعْرِبِينَ، فَقَدْ عَطَفَتْ هَذِهِ الواوُ المُقَدَّرَةُ جملةَ قولِهِ: "لَا يَذْكُرُ" عَلَى جملةِ {يَقُولُ} مِنَ الآيَةِ التي قَبْلَها، وَوُسِّطَتْ هَمْزَةُ الاسْتفهامِ الإِنْكَارِيِّ هُنَا بَيْنَ المَعْطُوفِ وَحَرْفِ العَطْفِ. و "لا" نَافِيَةٌ. و "يَذْكُرُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. وَ "الْإِنْسَانُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذوفِ، والتَّقْديرُ: أَيَقولُ الإِنْسانُ أَئِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجَ حَيًا، وَلَا يَذْكُرُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ ولمْ يَكُ شَيْئًا. وَالجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ} أَنَّا: أَنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوْكيدِ، و "نا" ضميرُ المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. وَ "خَلَقْنَاهُ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لِاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نَا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُولِيَّةِ. وَ "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَلَقْنَاهُ"، و قَبْلُ مبنيٌّ على الضَمِّ لقطعِهِ عنِ الإضافةِ، في محلِّ النَّصْبِ على الظَّرْفُيَّةِ الزمانيَّةِ. وَجُمْلَةُ "خَلَقْنَاهُ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ"، وَجُمْلَةُ "أَنَّ" فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ لِـ "يَذْكُرُ" وَالتَّقْديرُ: أَوَلَا يَذْكُرُ الإِنْسانُ خَلْقَنَا إِيَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
قولُهُ: {وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} الواوُ: حالِيَّةٌ، و "لَمْ" حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ وقَلْبٍ. و "يَكُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بـ "لَمْ"، وَعَلَامَةُ جَزْمِهِ سُكونٌ ظاهِرٌ عَلى النُّونِ المَحْذوفَةِ للتَّخْفيفِ، وهِيَ فِعْلٌ مِنَ الأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ، والنّاسِخَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيها جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "الْإِنْسَانُ". و "شَيْئًا" خَبَرُهَا منصوبٌ بها، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ مَفْعُولِ "خَلَقْنَاهُ".
قَرَأَ العَامَّةُ: {يَذَّكَّرُ} بالتَّشْديدِ مُضَارِعَ "تَذَكَّر"، وَالأَصْلُ "يَتَذَكَّرُ" فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ. وَقَرَأَ بِهَذا الأَصْلِ "يَتَذَكَّر" أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. وَقَرَأَ نافعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ، وجَمَاعَةٌ مِنَ القُرَّاءِ: "يَذْكُرُ" مُخَفَّفًا مُضَارِعَ "ذَكَرَ".