تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} أُشِيرَ إِلَى الجَنَّةِ باسْمِ الإشَارَةِ "تِلْكَ" الذي يُشارُ بِهِ للبَعِيدِ عادةً، إِعْلاءً لشَأْنِ هَذِهِ الجَنَّةِ التي وَعَدَ اللهُ تَعَالى أَنْ يُورِثَها عِبادَهُ المُتَّقينَ وَتَكْريمًا، ولِتَرْغِيبِهِم بها، ولِتَتَشَوَّفَ إِلَيْهَا أَنْفُسُهم، وتَشْرَئِبَّ إِلَيْها أعناقُهم، وتُشْحَذَ إِلَيْها هِمَمُهُم. و "نُورِثُ"، نَجْعَلُها لِمَنِ اتَّقَى رَبَّهُ مِيراثًا، وكأَنَّما أَخْلَفَتْ هَذِهِ الجَنَّةُ ما عَمِلَهُ هَؤلاءِ المُتَّقُونَ ولِذَلِكَ سُمِّيَتْ مِيراثًا أَوْرَثَهُمُ اللهُ إِيَّاها، كَمَا يَرِثُ الوَارِثُ مَالَ مُوَرِّثِهِ وَمَتاعَهُ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَنْواعِ التَّمْلِيكِ وَأَتَمَّها، حَيْثُ لَا يُعْقَبُ بِفَسْخٍ وَلَا إِبْطالٍ ولا اسْتِرْدادٍ، وَقِيلَ: يُوَرَّثُ المُتَّقُونَ مِنَ الجَنَّةِ المَسَاكِنَ الَّتي كَانَتْ لِأَهْلِ النَّارِ لَوْ أَنَّهمْ آمَنُوا باللهِ تَعَالَى، فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ شَوْذَب قَالَ: (لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ الَّا لَهُ فِي الجَنَّةِ مَنْزِلٌ وَأَزْواجٌ، فإِذَا كانَ يَوْمُ القِيَامَةِ وَرَّثَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنَ كَذَا وَكَذَا مَنْزِلًا مِنْ مَنَازِلِ الكُفَّارِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا" الآيَةَ، إلَّا أَنَّ هَذَا الحَديثَ ضعيفٌ فلا يُؤخذُ بِهِ، ولا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، ولا يُعْتَدُّ بِهِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الجَنَّةِ مُوَرَّثٌ، وَالنَّظْمُ الجَليلُ عَلَى أَنَّها مُوَرَّثةٌ كُلُّهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} تِلْكَ: اسْمُ إِشَارَةٍ للبَعِيدِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، واللامُ: للبُعدِ، والكافُ للخِطابِ. و "الْجَنَّةُ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وَهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَ "الَّتِي" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محَلِّ الرَّفعِ صِفَةً لِـ "الْجَنَّةُ". و "نُورِثُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرُ المعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، وتَقْديرُهُ (نَحْنُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى، وَهُوَ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَالعائدُ مَحْذوفٌ، والتَقديرُ: نُورِثُهَا. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنِ اسْمِ "كَانَ"، و "عِبَادِنَا" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "نا" ضميرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهَ ـ سُبْحانَهَ، مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُوليَّةِ لـ "نُورِثُ". و "كَانَ" فِعْلٌ مَاضٍ ناقِصٌ وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيِهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ المَوْصولِ "مَنْ". و "تَقِيًّا" خَبَرُ "كانَ" منصوبٌ بها. وهذِهِ الجُمْلَةُ مِنْ "كَانَ" واسْمِها وخبرِها صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ الجُمْهُورُ: {نُورِثُ} وقَرَأَ الحَسَنُ، والأَعْرَجُ، وَقَتَادَةُ، ورُوَيْسٌ، وَحُمَيْدٌ، وَابْنُ أَبي عَبْلَةَ، وأَبُو حَيَوَةَ، وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبي عَمْرٍو: {الَّتِي نُوَرِّثُ} بِفَتْحِ الوَاوِ وَتَشْديدِ الرَّاءِ، مِنْ "وَرَّثَ" مُضَعَّفًا. وَقَرَأَ الأَعْمَشُ "نُورِثها" بِإِبْرازِ عَائِدِ المَوْصُولِ.