وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} المَكانُ العَلِيُّ الذي رَفَعَ اللهُ تَعَالى عَبَدَهُ ونَبِيَّهُ إِدْريسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، هُوَ الجَنَّةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: في رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ. ذَكَرَهُ غيرُ واحدٍ مِنَ عُلماءِ التَّفْسيرِ. وروى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ نَبِيَّنا مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: ((لَمَّا عُرِجَ بِي رَأَيْتُ إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ)). المًسْنَد أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ: (3/260، برقم: 13775)، وَالبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ: بِدْءُ الخَلَقِ، بَابُ: ذِكْرُ المَلائِكَةِ: (4/77)، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: (1/149)، والتِّرْمِذِيُّ: (12/14، بِرَقَم: 3157)، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ فِي "مُصَنَّفِهِ": (11/533) وَالحَاكِمُ فِي "المُسْتَدْرَكَ" (2/373) وصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ في "تَفْسِيرِهِ": (16/96)، وَابْنُ كَثِيرٍ في "تَفْسيرِهِ" (3/140)، والسُّيُوطِيُّ فِي "الدُّرِ المَنْثُور في التفسيرِ بالمأسورِ: (4/494)، وَزادَ نِسْبَتَهُ لِابْنِ المُنْذِرِ، وابْنِ مِرْدُوَيْهِ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: رُفِعَ إِدْرِيسُ كَمَا رُفِعَ عِيسَى وَلَمْ يَمُتْ. وهوَ قولُ كعبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وقيلَ غيرُ ذَلِكَ، وقدِ اعَتَمَدْنا الروايةَ الأَصَحَّ، وَاللهُ أَعلمُ.
وارْتِفَاعُ المَكَانِ وَالشَّأْنِ إِنَّما يَكونُ عَلَى قَدْرِ صَفَاءِ الجَنَانِ، والإِقْبَالِ عَلَى الكَريمِ المَنَّانِ. فَقدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: المُرادُ بالرَّفعِ هُنَا: هوَ رَفْعُ النُّبُوَّةِ والتَّشْريفِ والمَنْزِلَةِ وإنَّما هوَ فِي السَّمَاءِ كَسائرِ الأَنْبِيَاءِ، وَقالَ كَعْبُ الأَحْبَارِ لِابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، كانَ لَهُ خَليلٌ مِنَ المَلائِكَةِ، فَحَمَلَهُ عَلَى جَنَاحِهِ، وَصَعِدَ بِهِ حَتَّى بَلَغَ السَّماءَ الرَّابِعَةَ، فَلَقِيَ هُنالِكَ مَلَكَ المَوْتِ، فقالَ لَهُ إِنَّهُ قِيلَ لِي اهْبِطْ إِلَى السَّماءِ الرَّابِعَةِ فَاقْبِضْ فِيها رُوحَ "إِدْريس" وَإِنِّي لَأَعْجَبُ كَيْفَ يَكونُ هَذَا، فَقَالَ لَهُ المَلَكُ الصَّاعِدُ: هَذَا "إِدْريسُ" مَعِي، فَقَبَضَ رُوحَهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} الوَاوُ: للعطفِ، و "رَفَعْنَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحَانَهُ، و "نا" التَّعْظيمِ هذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُوليَّةِ، و "مَكَانًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ المَكَانِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "رَفَعْنَاهُ". و "عَلِيًّا" صِفَةٌ لِـ "مَكَانًا" منصوبةٌ مثلُهُ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "كَانَ" مِنَ الآيَةِ التي قبلَها، عَلَى كونِها خَبَرَ "إِنَّ".