يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
قوْلُهُ ـ جَلَّ شَأْنُهُ: {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} يُتَابِعُ سيِّدُنا إِبراهيمُ الخَلِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، نُصْحَهُ لأَبيهِ ومُحاوَلَةَ هِدايتِهِ إلى طَريقِ الحَقِّ مُبَيِّنًا لَهُ الباعِثَ عَلَى هَذِهِ النَّصائِح، مُحَذِّرًا لَهُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ مَا هُوَ عليْهِ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وسَبَبُ الخَوْفِ هُوَ تَوَقُّعُ نُزُولِ مَكْرُوهٍ لِوُجودِ أَمَارَةٍ مَظْنُونَةٍ أَوْ مَعْلومَةٍ فَهُوَ أَمْرٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِوُقوعِهِ. وتَنْوينُ "العَذَابِ" الذي هو فاعِلُ المَسِّ هُنَا يَحْتَمِلُ التَّقْليلَ: أَيْ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْهُ، كَمَا يَحْتَمِلُ التَّعْظيمَ، أَيْ: عَذَابٌ هائِلٌ شديدٌ، وَلكنَّ إِضَافَتَهُ إِلَى الرَّحْمَنِ يُرَجِّح التَّعْظِيمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النُّورِ: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} الآيةَ: 14، لِأَنَّ عُقوبَةَ الكَريمِ الحَلِيمِ، تكونُ في العادةِ أَشَدَّ وأَعْظَمَ إِذا غَضِبَ. لِذَلِكَ فَقَدْ قَالَ إبْراهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ عَذابَ الرَّحمنِ ـ سُبحانَهُ وتَعَالى، إِنْ مِتَّ عَلى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ مُتَابَعَةِ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ عَلَى ضَلالِهِ ووِسْواسِهِ، وأَنتَ عَلَى إِصْرارَكَ وَعِصْيَانِ ربِّكَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَلذلكَ فقد أَظْهَرَ "الرَّحْمَن" إِشْعَارًا بِأَنَّ هذا الوَصْفَ لَا يَدْفَعُ عَنْهُ نُزُولَ العَذَابِ بِهِ، فهوَ كَمَا قَالَ تعالى مِنْ سُورةِ الانْفِطارِ: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} الآيةَ: 6.
وقيلَ إِنَّ حَمْلَ تَنْوينِ "عَذَاب" عَلَى التَّعْظيمِ والتَّفْخيمِ هُوَ مِمَّا يَأْباهُ المَقَامُ، لِأَنَّ المَقامَ هُنَا هوَ مَقامُ إِظْهارِ المَزيدِ مِنِ الرَّحمةِ وَالشَّفَقَةِ وَمُراعَاةِ الأَدَبِ معَ الأَبِ وَحُسْنِ مُعامَلَتِهِ، والتَرفُّقِ بِهُ فِي الخَطابِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ: {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} أَيْ قَرينًا لَهُ في أوصافِهِ، وَمُصَاحِبًا لَهُ في سُلوكِهِ فَتَلِيهِ فِي العَذَابِ وَيَلِيكَ، لأَنَّ وِلايَةَ الشَّيْطانِ وموالاتِهِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيها مَسٌّ شديدٌ مِنْ عَذابٍ عَظِيمٍ، ومُقَارَنَةٌ لَهُ فِي اللَّعْنِ المُخَلَّدِ، والعَذابِ المُؤَبَّدِ. والوِلَايَةُ: هي القُرْبُ، وَالوَلِيُّ هوَ القَريبُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} يَا: أَدَاةٌ للنِّداءِ، وَ "أَبَتِ" مُنَادَى مُضَافٌ تَقَدَّمَ إِعْرابُهُ في الآيَةِ: 42، السَّابِقَةِ. و "إِنِّي" إنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوْكِيدِ، وياءُ المتكلِّمِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "أَخَافُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنا) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا "إِبْرَاهِيمَ" ـ عليْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" معَ اسْمِها وخَبَرِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ {قَالَ}. و "أَنْ" حرفٌ ناصِبٌ ومَصْدَرِيٌّ. و "يَمَسَّكَ" فِعْلُ مُضَارِعٌ منصوبٌ بِهِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصِبِ بالمَفْعُولِيَّةِ. وَ "عَذَابٌ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "عَذَابٌ" و "الرَّحْمَنِ" اسْمٌ للجلالةِ مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ منْ "أَنْ يَمَسَّكَ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ لِـ "أَخافُ" والتَقْديرُ: إِنِّي أَخَافُ مَسَّ عَذابِ الرَّحْمَنِ إِيَّاكَ.
قولُهُ: {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "تَكُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ ناقِصٌ منْصوبٌ عَطْفًا عَلَى "يَمَسَّكَ". وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى أَبي إِبْراهِيمِ. و "لِلشَّيْطَانِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَخَافُ"، و "الشَّيْطانِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "وَلِيًّا" خَبَرُ "تَكُونَ" منصوبٌ بها، والجملةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا على جُمْلَةِ قولِهِ: "أَنْ يَمَسَّكَ".