يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} كَرَّرَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، هَذَا النِّداءَ الرَّقيقَ المُفْعَمَ بالحَنانِ مَرَّةً ثانيَةً، اسْتِعْطافًا لِقَلْبِ أَبيهِ واسْتِدْرارًا لغَريزَةِ الحَنَانِ فِيهِ، وإِيُقاظًا لأَواصِرِ الرَّحِمِ عِنْدَهُ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ حديثِي مَعَكَ هوَ حديثُ الولَدِ المُحِبِّ لِوَالِدِهِ، ليُجَنِّبَهُ خَطرًا داهمًا وهلاكًا مُحَقَّقًا، أَيْ: وَقَالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ: "يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ" بِأَحْوالِ الآخِرَةِ، وَمَا يَنْتَظِرُ المُشْركِينَ باللهِ فيها مِنَ العَذابِ وسُوءِ المُنْقَلَبِ والمَصِيرِ، "مَا لَمْ يَأْتِكَ" مِنْهُ شَيْءٌ، ولا عرَفْتَ عَنْهُ شيئًا.
قولُهُ: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} فَاتَّبِعْنِي: إَلَى مَا أَدْعُوكَ إِلَيْهِ مِنْ دِينِ اللهِ، "أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا"، أَيْ: دِينًا عَدْلًا قِيَمًا سَوِيًّا لا عِوَجَ فِيهِ، فَلَا تَظُنَّ أَنِّي أَذْكَى مِنْكَ أَوْ أَفْضَل، فإِنَّ هَذَا الذي أَقولُهُ لَكَ لَيْسَ مِنْ بَنَاتِ أَفْكاري، بَلْ هِيَ رِسَالَةُ اللهِ خالقِكَ وخالِقِ كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْكَ، كُلِّفْتُ بإبْلاغِكَ إِيَّاهَا.
وَفَي هَذَا دَليلٌ عَلى أَنَّ سيِّدَنا إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، كانَ قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ قَبْلَ ذلكَ، وَإِذًا فَهُوَ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، مُكَلَّفٌ بِتَبْلِيغِ النَّاسِ رِسَالةَ رَبِّهِ وَرَبِّهم، فَبَدَأَ بِمَنْ حَوْلَهُ، وبِمَنْ هوَ الأَقْرَبُ إِلَيْهِ، وهوَ أَبُوهُ، على قاعِدةِ: الأَقْرَبُونَ أَوْلَى بِالْمَعُروفِ.
ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ قد عَرَفَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا مِنْهُ وَاجْتِهَادًا، عَلَى غَيْرِ وَحْيٍ، كَمَا تَوَصَّلَ مِنْ قبلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الخالِقِ العَظيمِ بِالْاسْتِدْلالِ العَقْلِيِّ المنطقيِّ، والدليلِ الحِسِّيِّ الذي سَبَقَ أنْ تَحَدَّثَ عَنْهُ القُرْآنُ الكريمُ فِي الآياتِ: (76 ـ 79)، مِنْ سُورَةِ الأَنْعَامِ فَقَالَ: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. وقدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ في موضِعِهِ، والحمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ.
وفي قَوْلِهِ تَعَالى: "أَهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا" اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، شُبِّهَ فيها إِبْرَاهِيمُ الخليلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِهَادِي الطَّرِيقِ الْبَصِيرِ بِثَنَايَاهُ وخفاياهُ ومجاهِلِهِ، وَإِثْبَاتُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ قَرِينَةُ هذا التَّشْبِيهِ، وَهُوَ أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ صَريحَةٌ حَيْثُ شُبِّهَ الِاعْتِقَادُ الْمُوصِلُ إِلَى الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَقْصُودِ.
قولُهُ تَعَالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} يَا أَبَتِ: تقدَّمُ إِعْرَابُهُ في الآيةِ التي قبلَها فلا حاجةَ للتَّكْرارِ. و "إِنِّي" إنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ، للتوْكيدِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ، اسْمُهُ. و "قَدْ" حَرْفُ تَحْقِيقٍ. و "جَاءَنِي" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، والنُّونُ للوِقايَةِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ. و "مِنَ" حَرْفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِـ "جَاءَنِي"، و "الْعِلْمِ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. و "مَا" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ على الفاعليَّةِ بِـ "جَاءَ"، أَوْ هِيَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ. و "لَمْ" حَرْفُ جَزْمٍ ونَفْيٍ وَقَلْبٍ. و "يَأْتِكَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بِهَا، وعلامةُ جزمِهِ حذْفُ حَرْفِ العِلَّةِ مِنْ آخرِهِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مَا"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ، مبنيٌّ على الكسْرِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَا" المَوْصُولَةِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ الرَّفعِ إِنْ كانتْ نَكِرَةً مَوصوفةً، وَجُمْلَةُ "جَاءَنِي" الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إنَّ" مِنِ اسْمِها وخبَرِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على أَنَّها مَقْولُ القولِ لِـ "قَالَ" عَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} الفاءُ: قِيلَ هيَ الفَصِيحَةُ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ قَدْ جاءَني العِلْمُ، وأَرَدْتَ بَيَانَ مَا هوَ الأَسَلَمُ لَكَ أَنْ تَفْعَلَهُ فَأَقُولُ لَكَ: "اتَّبِعْني". و "اتَّبِعْني" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةُ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى أَبي إِبْراهِيمَ، والنُّونُ للوِقايَةِ، وَياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى المَفْعُولِيَّةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القَوْلِ لِجَوَابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولُ القولِ لـ {قَالَ}. و "أَهْدِكَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزومٌ بِالطَّلَبِ السَّابِقِ، وعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حَرْفِ العِلَّةِ مِنْ آخرِهِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنَا) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وكافُ الخطابُ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى أَنَّهُ مَفْعُولُ "أَهْدِ" الأَوَّلُ. و "صِرَاطًا" مَفْعُولٌ ثانٍ لِـ "أَهْدِ" مَنْصُوبٌ بِهِ. و "سَوِيًّا" صِفَةٌ لـ "صِرَاطًا" مَنْصُوبٌ بِهِ.