إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ} مَازالَ الحَديثُ عَنْ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، سَيِّدِنا إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فإنَّ ذِكْرَهُ مِنْ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ المُبارَكَةِ، وكيفَ لا وَهُوَ أَبَو الْأَنْبِيَاءِ، وَأَوَّلَ مَنْ أَعْلَنَ التَّوْحِيدَ إِعْلَانًا بَاقِيًا إلى قِيامِ السَّاعةِ، لِبِنَائِهِ الكَعْبَةَ المُشرَّفةَ هَيْكَلَ التَّوْحِيدِ وَصَرْحَهُ الخالدَ.
وَقَوْلُهُ: "أَبَتِ": أَبي، فَأُقيمَتْ التَّاءُ مَقَامَ يَاءِ الْإِضَافَةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ سيبَوَيْهِ، و عِنْدَهُ يكونُ الوُقوفُ عَلَيْها بالهَاءِ، فيُقْرَأُ "أَبَتَهْ"، وَمَذْهَبُ الفَرَّاءِ أَنْ يُوقَفَ عَلَيْها بالتاءِ "أَبَتْ"، لِأَنَّ الياءَ الَّتي لِلْإِضافَةِ عِنْدَهُ مَنْوَيَّةٌ.
وبِهَذِهِ اللفظةِ يَجَبُ على الوَلَدِ أَنْ يُخاطِبَ أَبَاهُ إِذَا أَرادَ مناداتِهِ، فَيَقُولُ: "يا أَبَتِ"، أَوْ "يَا أَبي"، أو "يا أَبَتَاهُ"، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُنادِيَهِ بِاسْمِهِ فيَقولُ لِأَبِيهِ: يَا فَلانُ، وذلكَ لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، والدَّيْلَمِيُّ، وأبو حاتمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَقُّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ لَا يُسَمِّيهِ إِلَّا بِمَا سَمَّى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ: "يَا أَبَتِ" وَلَا يُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ.
وقالَ "أَبَتِ" لِعَمِّهِ لِجَوازِ إطلاقِ هذا اللَّفْظِ عَلى الوالِدِ والعَمِّ والجَدِّ فأَبُو إِبْراهيمَ الذي وَلَدَهُ هُوَ "تَارِحُ" وَأَمَّا "آزَرَ" فَهُوَ عَمُّهُ، وَلَيْسَ بِوَالِدِهِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ القُرْآنُ الكريمُ في سُورَةِ الأَنعامِ فَقَالَ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} الآيةَ: 74، وَقَدْ كَفَلَهُ بَعْدَ وَفاةِ والِدِهِ، يَعُضُدُ هَذَا قوْلُهُ تَعَالَى فِي الآيَةِ: 219، مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {وتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدينَ} فَالْمُخاطَبُ بِهَا هُوَ سَيِّدُنا محمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، ومِمَّا جَاءَ في تَفْسيرِها أَنَّ آباءَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، كلُّهُم مُوَحِّدونَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أَبِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَكَذَلِكَ أُمَّهاتُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: سَأَلتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَيْنَ كُنْتَ وَآدَمُ فِي الْجَنَّةَ؟ فَتَبَسَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنِّي كُنْتُ فِي صُلْبِهِ، وَهَبَطَ إِلَى الأَرْضِ وَأَنَا فِي صُلْبِهِ، وَرَكِبْتُ السَّفِينَةَ فِي صُلْبِ أَبي نُوحٍ، وَقُذِفْتُ فِي النَّارِ فِي صُلْبِ أَبي إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَلْتَقِ أَبَوايَ قَطُّ عَلَى سِفَاحٍ، لَمْ يَزَلِ اللهُ يَنْقُلُني مِنَ الأَصْلابِ الطَّيِّبَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطاهرَةِ مُصَفًّى مُهَذَّبًا، لَا تَتَشَعَّبُ شُعْبَتانِ إِلَّا كُنْتُ فِي خَيْرِهِمَا. قَدْ أَخَذَ اللهُ بِالْنُبُوَّةِ مِيثاقي، وبِالإِسْلامِ هَدَانِي، وَبَيَّنَ فِي التَّوْرَاةِ والإِنْجيلِ ذِكْرِي، وَبَيَّنَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ صِفَتي فِي شَرْقِ الأَرْضِ وَغَرْبِهَا، وَعَلَّمَنِي كِتَابَهُ، ورَقِيَ بِي فِي سَمائِهِ، وَشَقَّ لِي مِنْ أَسْمَائِهِ، فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَأَنَا مُحَمَّدٌ، وَوَعَدَني أَنْ يَحْبُوَني بالحَوْضِ، وَأَعْطَانِي الْكَوْثَرَ، وَأَنَا أَولُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ، ثُمَّ أَخْرَجَنِي فِي خَيْرِ قُرُونِ أُمَّتِي، وَأُمَّتِي الْحَمَّادُونَ، يَأْمُرونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَينْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)). ذَكَرَهُ الإِمامُ السُّيُوطيُّ في الدُّرِّ المَنْثُورِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ: (3/408).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي عُمَرَ الْعَدَنِيِّ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدينَ}، قَالَ: مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ حَتَّى أُخْرِجْتُ نَبِيًّا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنْ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدينَ} قَالَ: مَا زَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتَقَلَّبْ فِي أَصْلابِ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. وَرَسُولُ اللهِ مِنْ نَسْلِ إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ السَّلامُ، وَلِذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ وَالِدُ إِبْرَاهيمَ مُشْرِكًا، فهُوَ عَمُّهُ عَلَى الأَرْجَحِ، وَقِيلَ: هُوَ مُرَبِّيهِ ومُتَعَهِّدُهُ ورَاعِيهِ، أَوْ مُعَلِّمُهِ. أَقْوالٌ.
قَوْلُهُ: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} لاَ يَسْمَعُ: ثَنَاءَكَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَبَادَتِكَ لَهُ وتَضَرُّعَكَ إِلَيْهِ. و "لاَ يَبْصِرُ" خُضُوعَكِ وَخُشُوعَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وتَذَلُّلَكَ إِليْهِ، أَوْ لا يَسْمَعُ شيئًا مِنَ المَسْموعاتِ، ولا يُبْصِرُ شَيْئًا مِنَ المُبْصَرَاتِ، وَالمُرادُ بِهِ هوَ الصَّنَمُ، المُتَّخَذُ مِنَ الحَجَرِ، أَوِ الحَديدِ، أَوْ النُّحاسِ أَوِ الذَّهبِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الجَمَاداتِ الَّتي لا حِسَّ فِيها، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ المُشْرِكُونَ لِسُخْفِ عُقُولِهم. حَتَّى وَلَوْ سَمِعَ، وَأَبْصَرَ، كَمَا هِيَ حالُ المَلائِكَةِ وَغِيْرِهم، مِمَّنْ عُبْدَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمْ يَجُزُ عِبَادَتُها. وإِنَّما أَرادَ سيِّدُنا إِبراهيمَ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ، بِنَفْيِ السَّمْع والبَصَرِ عَنْهَا بَيَانَ فَسادِ مُعْتَقَدِهم، وَشِنْعَةَ رَأْيِهم فِي عِبادَتِهَا.
قوْلُهُ: {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} أيْ: لَا يَسْتطيعُ أَنْ يَجْلِبَ لَكَ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعَ عَنْكَ ضرًّا. و "شَيْئًا" يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ مَفْعُولًا بِهِ، وَيُحتمَلُ أَنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ المَصْدَرِ، أي: لا يُغْني عَنْكَ شَيْئًا مِنَ الإِغْنَاءِ.
لَقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلَى اسْتِحْقاقِ المَعْبُودِ ـ جلَّ جلالُهُ، الوَصفَ بالسَّمْعِ والبَصَرِ عَلَى الكَمَالِ دُونَ أيِّ نُقْصانٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ القَوْلُ في القُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ والضَّرِّ. وإِذا رَجَعُ العبْدُ إِلى التَّحْقيقِ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ الخَلْقِ لَا تَصْلُحُ قُدْرَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ للإبداعِ والإِحْدَاثَ، فَمَنْ عَلَّقَ قَلْبَهُ بِمَخْلوقٍ، لاسْتِجْلابِ نَفْعٍ أَوْ دفعِ ضَررٍ مُعْتَقِدًا فيهِ المَقْدِرَةَ عَلى ذَلِكَ، فَهُوَ كَالمُشْركينَ عَبَدَةِ الأَصْنامِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ} إِذْ: ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمانِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ {صِدِّيقًا}، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ إِبراهيمَ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: اذْكُرْ خَبَرَ إِبْراهِيمَ، أَوْ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَال: .. ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي {إِذِ انْتَبَذَتْ} مِنَ الآيَةِ: 16 السابقةِ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ فُصِلَ بَيْنَ البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا}، نَحْوَ قولِكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا ـ ونِعْمَ الرَّجُلُ، أَخَاكَ. أَوْ هوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ المُضافَ المُقَدَّرِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعْلَّقَ "إِذْ" بِـ "كانَ" أَوْ بِـ "صِدِّيقًا نًبٍيًّا"، أَيْ: كانَ جامِعًا لِخَصَائِصِ الصِّدِّيقينَ والأَنْبِيَاءِ، حِينَ خَاطَبَ أَبَاهُ تِلْكَ المُخاطَباتِ. وَلِذَلِكَ جَوَّزَ أَبُو البَقَاءِ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ {صِدِّيقًا نَبِيًّا}، أَوْ مَعْنَاهُ.
قالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانٍ الأَنْدَلُسِيُّ: الإِعْرابُ الأَوَّلُ ـ يَعْنِي البَدَلِيَّةَ، يَقْتَضِي تَصَرُّفَ "إِذْ" وَهِيَ لَا تَتَصَرَّفُ، وَالثاني فِيهِ إِعْمَالُ "كان" فِي الظَّرْفِ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَالثَّالثُ لَا يَكونُ العامِلُ مُرَكَّبًا مِنْ مَجْمُوعِ لَفْظَيْنِ، بَلْ يَكونُ العَمَلُ مَنْسُوبًا لِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وغيرُ جَائزٍ أَنْ يَكونَ مَعْمُولًا لِـ "صِدِّيقًا" لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ، إِلَّا عِنْدَ الكُوفِيِّينَ. وَيَبْعُدُ أَنْ يَكونَ مَعْمُولًا لِـ "نَبِيًّا" لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّنْبِئَةَ كانَتْ فِي وَقْتِ هَذِهِ المَقَالَةِ. قَالَ السَّمينُ: العامِلُ فِيهِ مَا لَخَّصَهُ أَبُو القَاسِمِ وَنَضَّدَّهُ بِحُسْنِ صِنَاعَتِهِ مِنْ مَجْمُوعِ اللَّفْظَيْنِ كَمَا رَأَيْتَ فِي قَوْلِهِ: أَيْ كانَ جَامِعًا لِخَصَائِصِ الصِّدِّيقِينَ وَالأَنْبِياءِ حِينَ خاطَبَ أَبَاهُ.
و "قالَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الفَتْحِ. وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ: (هُوَ) مَرْفوعٌ بِهِ. وَ "لِأَبِيهِ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَالَ"، وَ "أَبي" مَجْرُورٌ بحَرْفِ الجَرِّ وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ مِنَ الأَسْمَاءِ الخَمْسَةِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ في مَحَلِّ الجَرِّ مُضافٌ إِلَيْهِ لِـ "إِذْ". و "يَا" أَدَاةٌ للنِّداءِ. و "أَبَتِ" مَنْادَى مُضافٌ مَنْصُوبٌ بالنِّداءِ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى الباءِ، مَنَعَ مِنْ ظُهُورِهَا اشْتِغَالُ المَحَلِّ بِالْفَتْحَةِ المَجْلُوبَةِ لِمُناسَبَةِ التَّاءِ؛ لأَنَّ التاءَ هَذهِ لَا يَكونُ مَا قَبْلَهَا إِلَّا مَفْتُوحًا، وَالتَاءُ: هِيَ تاءُ التَأْنيثِ حَرْفٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، مَبْنِيَّةٌ عَلَى الكَسْرِ، وإِنِّمَا حُرِّكَتْ لِكَوْنِها عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وكانَتِ الحَرَكَةُ كَسْرَةً قَصْدًا لِتَعْويضِ كَسْرِهَا عَنِ الكَسْرِ الذي كانَ يَسْتَحِقُّهُ مَا قَبْلُ الياءِ، أَيْ الأَصْل، وَقَدْ أُضِيفَتْ للتَّفْخِيمِ، عِوَضًا مِنْ يَاءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ، ويَاءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ لِشِبَهِها بالحَرْفِ شَبَهًا وَضْعِيًّا، في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَجُمْلَةُ النِّداءِ وَجَوَابُها في مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ".
قولُهُ: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} لِمَ: اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَعْبُدُ"، و "مَ" اسْمُ اسْتِفْهامٍ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكُونِ الظَّاهِرِ عَلَى الأَلِفِ المَحْذوفَةِ، فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ "ما" المَوْصُولَةِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجرِّ. و "تَعْبُدُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى أَبِي إِبْراهيمَ، وَالجُمْلَةُ: في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ". و "مَا" مَوْصُولَةٌ مبنيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في مَحلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُوليَّةِ لـ "تَعْبُدُ"، أَوْ نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ. و "لَا" نافِيَةٌ. و "يَسْمَعُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مَا". وَالجُمْلَةُ: صِلَةٌ لِـ "مَا" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في مَحَلِّ النَّصْبِ إِنْ كانَتْ نَكِرَةً مَوْصوفةً. و "لَا يُبْصِرُ" مِثْلُ قوْلِهِ: "لَا يَسْمَعُ" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} الواوُ: للعَطْفِ، و "لَا يُغْنِي" مِثْلُ قَوْلِهِ "لَا يَسْمَعُ" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ ولَهُ مثلُ إعرابِهِ، وعلامةُ الرَّفعِ هنا ضمَّةٌ مقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِ ظهورِها على الياءِ. و "عَنْكَ" عَنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُغْنِي"، وكافُ الخِطابِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "شَيْئًا" مَفْعولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ عَلَى المَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: شَيْئًا مِنَ الإِغْنَاءِ.
قرَأَ جُمْهُورُ القُرَّاءِ: {يا أَبَتِ} بِكَسْرِ التَّاءِ، وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "وَا أَبَتِ" بِوَاوٍ للنِّداءِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، والأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ النَحَّاسُ: "يا أَبَتَ" بِفَتْحِ التَّاءِ، وَوَجْهُها أَنَّهُ أَرَادَ "يَا أَبَتَا" فَحَذَفَ الأَلِفَ وتَرَكَ الفَتْحَةَ للدَّلالَةِ عَلَيْها، وَوَجْهٌ آخَرُ أَنْ تَكونَ التَّاءُ المُقْحَمَةُ كَالَّتي فِي قَوْلِك: "يَا طَلْحَةُ"، وَفي هَذَا نَظَرٌ، وَقَدْ لَحَّنَ هَارُونُ هَذِهِ القِراءَةَ.