وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} أَرَادَ اللهُ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى أَنْ يَعْرِضَ لَنَا في هَذِهِ السُّورةِ المُباركَةِ مَوْكِبًا مِنْ الرِّسالاتِ الَّتي أَرْسَلَهَا نُورًا مِنَ السَّمَاءِ لِهِدايَةِ أَهْلِ الأَرْضِ، فذكَر لَنَا فِي مُسْتَهَلِّها ميلادَ سِيِّدِنَا يَحْيَى لِسَيِّدِنَا زَكَرِيَّا، ثمَّ مِيلادَ سَيِّدِنَا المَسِيحَ بْنِ مَرْيَمَ، ثُمَّ قالَ: "واذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ". وإِبْراهِيمُ هوَ أَبُو الأَنْبِياءِ ـ عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ وقد مَدَحَهُ اللهُ في سورةِ النَّحْلِ فقالَ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قانتًا للهِ حنيفًا} الآيةَ: 120. وقالَ "أُمَّةً" لِأَنَّ خِصَالَ الكَمَالِ، وَمَوَاهِبَ الفَضْلِ كُلَّها كانَتْ مجتمعةً فيهِ، فَالْكَمَالُ مُوَزَّعٌ فِي الخَلْقِ، مجتمعٌ في إِبْراهِيمَ، ولذلكَ كانَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، يُساوِي بمَوَاهِبِهِ وكَمَالاتِهِ أُمَّةً بِأَكْمَلِهَا.
قوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} وَإِنَّما يُقالُ "صِدِّيقٌ" لِمَنْ كَثُرَ مِنْهُ مَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الاسْمِ، وَكَذَلِكَ التَّشْديدُ، فَإِنَّما يُشَدَّدُ اللفْظُ إِذا كَثُرَ الفِعْلُ مِنْهُ حتَّى صَارَ كَالْعادَةِ والطَّبْعِ لِفاعِلِهِ، فَكَأَنَّهُ سُمِّيَ بِهَذَا لِمَّا لَمْ يَكُنْ يَجْعَلْ بَيْنَ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنَ الحُقوقِ وَالفِعْلِ، وَبَيْنَ وَفائها وأَدَائها إِلَيْهَا نُظْرَةً وَلَا مُهْلَةً، بَلْ كَانَ يَفِي بِهَا وَيُؤَدَّيها كَمَا ظَهَرَ لَهُ، وَلِذَلِكَ نَعتَهُ ربُّهُ بالوفاءِ فقالَ مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}، وَقَالَ في الآيَةِ: 124، مِنْ سُورَةِ البَقَرَة: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)، فقدْ كانَتْ عادَتُهُ القِيامَ بِوَفاءِ مَا ظَهَرَ لَهُ وَإِتْمامِ مَا ابْتَلاهُ اللهُ بِهِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} الواو: عَاطِفَةٌ، أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "اذْكُرْ" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اذْكُرْ"، و "الْكِتَابِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "إِبْرَاهِيمَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، ولمْ يُنَوَّنْ لأنَّهُ ممنوعٌ منَ الصَّرفِ بالعلميَّةِ والعُجمةِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذَهَ فِي مَحَلِّ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: {أَنذَرَهُمْ}، مِنَ الآيةِ: 39، السَّابِقَةِ، على كونِها مُسْتَأْنفةً، وَقِيلَ: هي معطوفةٌ عَلى جُمْلَةِ قولِهِ: {اذْكُرْ} مِنَ الآيةِ: 16، أَوَّلَ قِصَّةِ مَرْيَمَ ـ عَلَيْها السَّلامُ، وَقِيلَ: هِيَ مُسْتَأْنَفةٌ، وَقالَ الحَسَنُ البَصْريُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هِيَ صِلَةُ المَوصولِ الحَرْفِيِّ أَوَّلَ السُّورَةِ: {كَهَيَعَص* ذِكْرُ رحمةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زكَريا} يَقُولُ: اذْكُرْ رَحْمَةَ رَبِّكَ إِبْراهِيمَ، وكَذَلِكَ جَميعُ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ نَحْوِ هَذَا هُو صِلَةُ كذلكَ، فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ {كَهَيَعَص} فِي أَوَّلِ كُلِّ قِصَّةٍ منها؛ وَجَاءتِ القَصَّةُ تَفْسيرًا لِـ {كَهَيَعَص}، وَكَذَلِكَ يَقولُ فِي جَمِيعِ الحُروفِ المُقَطَّعَةِ: إِنَّ ما بعدَها صِلَةٌ لها وَتَفسيرٌ، وَلَعَلَّ الوَجْهَ الأَوَّلَ أَظْهَرُ، وَهِيَ في الأَوْجُهِ جَمِيعِها لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} إِنَّهُ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشبَّهٌ بالفِعلِ، للتَّوْكيدِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصِبِ اسْمُهُ. و "كَانَ" فِعْلٌ مَاضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ مسْتترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عليْهِ السَّلامُ. و "صِدِّيقًا" خَبَرٌ أَوَّلُ لِـ "كَانَ" مرفوعٌ. و "نَبِيًّا}: خَبَرٌ ثَانٍ لَهَا منصوبٌ بها، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ: "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَهَا، فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.