وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} تَعْمِيمُ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى لِكُلِّ الْمخْلوقاتِ. وَالرَّبُّ: هو المُتَوَلَّي للتَرْبِيَةِ وَالرِّعايَةِ والإعدادِ. وتَعْنِي التربيةُ اتِّخاذَ المُرَبِّي مَنْ يُربِّي بالرِّياضَةِ حتى يُصْبِحَ صالِحًا لِأَداءِ مَهامِّهِ والقِيَامِ بما يَتَوَجَّبُ عَلَيْهِ عَلى أَكْمَلِ وَجْهٍ. وَلِذَلِكَ فإِني أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، لأنَّهُ الوحيدُ المُسْتَحِقُّ للعِبادةِ، فَمِنَ الوَاجِبِ أَنْ تُطيعوهُ لِأَنَّ العبادةَ تعني فيما تَعْنيهِ طاعَةَ العابدِ مَعْبُودَهُ فِي يَأْمُرُ بهِ ويَنْهى عَنْهُ.
ويَجُوزُ في هَذِهِ الآية أَنْ تَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامٍ جَرَى عَلَى لِسَانِ عِيسَى تَأْيِيدًا لِبَرَاءَةِ أُمِّهِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ في الآية: 31، السابقةِ: {بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ}، أَيْ وَأَوْصَانِي بِأَنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، فَيَكُونُ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ مُطَّرِدٌ مَعَ (أَنَّ).
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى "الْحَقِّ" مِنْ قَوْلِهِ: {قَوْلَ الْحَقِّ} الآية: 34، السابقةِ عَلَى وَجْهِ جَعْلِ "قَوْلَ" بِمَعْنَى "قَائِلٍ"، أَيْ قَائِلٌ الْحَقَّ وَقَائِلٌ "إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ"، فَإِنَّ هَمْزَةَ "أَنَّ" يَجُوزُ فيها الفَتْحُ وَالكَسْرُ إِذا أَتَتْ بَعْدَ مَادَّةِ الْقَوْلِ.
قولُهُ: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} الصراطُ: الطَّريقُ. و "المُستقيمُ" هوَ المَسافَةُ الأَقصرُ بَيْنَ نُقطتَيْنِ. وقالَ تعالى من سورةِ الأَنعامِ: {وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الْآية: 153. وَالْمُرَادُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ هنا اعْتِقَادُ الْحَقِّ، وقد شُبِّهَ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، فشَبَّهَ الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ فِي كَوْنِهِ مَوْصُولًا إِلَى الْهُدَى بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي إِيصَالِهِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ بِاطْمِئْنَانِ بَالٍ. أَيْ: هَذا الذي سَبَقَ أنْ حدَّثْتكم عَنْهُ طَريقٌ وَاضِحٌ لا الْتِوَاءَ وَلَا اعْوِجَاجٍ فيهِ، وَهُوَ مُفْضٍ إِلَى رَحمَةِ اللهِ تَعَالَى والنَّجَاةِ مِنْ عذابِهِ، فإنَّهُ يُوصِلُ إِلى المَقْصودِ بِأَقَلِّ مَجْهُودٍ مِنْ أَقْرَبِ الطُرقِ مَسَافَةٍ، وَهو مَا تقدَّمَ الحديثُ عنْهُ مِن وَحْدَانِيَّتِهِ تعالى ونَفْيِ اتِّخاذِهِ الوَلَدِ والزوجةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَزَّهُ اللهُ تَعاَلَى عَنْهُ، ولا يَلِيقُ بذاتِهِ المُقدَّسَةِ.
قولُهُ تَعالى: {وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، أَوْ للعطْفِ، و "إِنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، للتوكيد. ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسمُهُ منصوبٌ بهِ. وَ "رَبِّي" خَبَرُهُ مرفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رفعِهِ مقدَّرةٌ على آخِرِهِ لانشغالِ المحلِّ بالحرَكةِ المناسِبَةِ للياءِ، وهوُ مُضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "رَبُّكُمْ" مَعْطوفٌ عَلَى "رَبِّي" مرفوعٌ مِثلُهُ، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إليْهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {إِنِّي عَبْدُ اللهِ}، كما تقدَّمَ بيانُهُ في مبحثِ التفسيرِ، هَذَا عَلى قِراءَةِ كَسْرِ هَمْزَةِ "إِنَّ" وأَمَّا عَلَى فَتْحِها فَعَلى تَقْديرِهِ حَرْفَ جَرٍّ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ، والتقديرُ: وَ "وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ" الآيةَ.
قولُهُ: {فَاعْبُدُوهُ} الفاءُ: هي الفصيحةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتُمْ أَنَّ اللهَ رَبِّي ورَبُّكم وَأَرَدْتُمْ بَيَانَ مَا هوَ اللازِمُ لَكُمْ، فأَقولُ لَكُمْ اعبدوهُ .. . و "اعْبُدوهُ" فِعْلُ أَمرٍ مَبْنِيٌّ عَلى حَذْفِ النونِ مِنْ آخرِهِ لأنَّ مُضارِعَه مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ. وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتم) يعودُ على المُخاطبينَ قومِ عيسى ـ عليْهِ السَّلامُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، وَالْجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِجَوابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وجُمْلَةُ "إِذا" المُقَدَّرَةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} هَذَا: الهاءُ: للتنبيهِ، و "ذا" اسْمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ. وَ "صِرَاطٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ. و "مُسْتَقِيمٌ" صِفَةٌ لـ "صِرَاطٌ" مرفوعةٌ مِثلُهُ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَها عَلى كَوْنِها مَقُولًا لِجَوابِ إِذا المُقَدَّرَةِ.
قَرَأَ الجُمهورُ: {أَنَّ} بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وَفِيها أَوْجُهٌ، أَحَدُهُا: أَنَّها عَلى حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ، والتَقْديرُ: ولِأَنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعْبُدوهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ الجِنِّ: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللهِ أَحَدًا} الآيةَ: 18، والمَعْنَى لِوَحْدانِيَّتِهِ أَطِيْعوهُ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَابِعا في ذلكَ الخَليلَ بْنَ أحمدٍ الفراهيديَّ وَسِيبَوَيْهِ. الثاني: أَنَّها عَطْفٌ عَلى "الصلاةِ" والتَقْديرُ: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَبِأَنَّ اللهَ رَبِّي وربُّكم فاعْبُدوهُ. وإَلى هذا ذَهَبَ الفَرَّاءُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَكِيٌّ غَيْرَ هذا الوجْهَ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَبِأَنَّ اللهَ رَبِّي ـ بِإِظْهارِ الباءِ الجَارَّةِ. وَقَدِ اسْتُبْعِدَ هَذَا القَوْلُ لِكَثْرَةِ الفَوَاصِلِ بَيْنَ المُتَعَاطِفَيْنِ. وَأَمَّا ظُهُورُ الباءِ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ فَلَا يُرَجِّحُ هَذَا لِأَنَّها باءُ السَّبَبِيَّةِ، والمَعْنَى: بِسَبَبِ أَنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكمْ فَاعْبُدوهُ فَهِيَ كَالَّلامِ. الثالثُ: أَنْ تَكونَ "أَنَّ" وَمَا بعْدَهَا نَسَقًا عَلَى "أَمْرًا" المَنْصوبِ بـ "قَضَى" وَالتَقديرُ: وَإِذا قَضَى أَمْرًا، وَقَضَى أَنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكم. ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ. وَاسْتَبْعَدَ النَّاسُ صِحَّةَ هَذا النَّقْلِ عَنْ أَبي عَمْرٍو؛ لِأَنَّهُ مِنَ الجلالةِ فِي العِلْمِ والمَعْرِفَةِ بِمَنْزِلٍ يَمْنَعُهُ مِنَ هَذا القوْلِ؛ وَذَلِكَ لأَنَّهُ إِذا عَطَفَ عَلى "أَمْرًا" لَزِمَ أَنْ يَكونَ داخِلًا في حَيِّزِ الشَّرْطِ بـ "إذا"، وَكَوْنُهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، رَبُّنا لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطٍ البَتَّةَ، بَلْ هوَ رَبُّنا عَلَى الإِطْلاقِ. وَنَسَبُوا هَذَا الوَهْمَ لأَبي عُبَيْدَةَ كانَ ضَعِيفًا في النَّحْوِ، وَعَدُّوا لَهُ غَلَطاتٍ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْها. الرابعُ: أَنْ يَكونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرِ ابْتِداءٍ مُضْمَرٍ، تَقْديرُهُ: وَالأَمْرُ أَنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكم. ذُكِر ذَلِكَ عَنِ الكِسَائِيِّ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الإِضْمارِ. الخامسُ: أَنْ يَكونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ نَسَقًا عَلى {الكتابَ} فِي قَوْلِهِ: {قالَ: إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانيَ الكِتَابَ} عَلى أَنْ يَكونَ المُخاطَبُ بِذَلِكَ مُعاصِرِي عيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والقائلُ لَهُم ذَلِكَ هو عِيسى.
وعَنْ وَهْبِ بْنِ منَبِّهٍ: عَهِدَ إِلَيْهِمْ عِيسَى أَنَّ اللهَ رَبَّي وَرَبُّكم. قَالَ هَذَا القائلُ: وَمَنْ كَسَرَ الهمْزةَ يَكونُ قَدْ عَطَفَ "إِنَّ اللهَ" عَلَى قولِهِ {إِنِّي عَبْدُ اللهِ} فَهُوَ دَاخِلٌ في حَيِّزِ القولِ. وَتَكونُ الجُمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} إِلَى آخِرهَا جُمَلَ اعْتِراضٍ، وَهَذَا مِنَ البُعْدِ بِمَكانٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِكَسْرِ همزَةِ "وأنَّ" عَلَى الاسْتِئْنافِ، وَيُؤَيِّدُها قراءةُ أُبَيّ {إِنَّ اللهَ} بالكَسْرِ دَونَ وَاوٍ.