وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنَهُ: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} فَكانَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، يُخْبِرُهُمْ بِمَا يَأْكُلونَ وَمَا يَدَّخِرونَ فِي بُيُوتِهم، وَكَانَ يُبْرِئِ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ، وَيُحْيي المَوْتَى، ويناديهم فيخرجونَ مِنْ قُبُورِهم، وأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلى يَدَيْهِ مَائدَةً مِنَ السَّماءِ، عَلى أَنْ تَكونَ عِيدًا لِأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِم، فأَيُّ بَرَكَةٍ أَعْظَمُ يُعْطيها اللهِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِه؟!. قالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ آلِ عِمْرانَ: {.. أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} الآية: 49، وقال مِنْ سورةِ المائدة: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى} الآية: 110. ثمَّ قَالَ في الآيَتَيْنِ: (114 وَ 115): {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الكَلِمَاتِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بعضُ أَهْلِ التَّأْويلِ: إِنَّهُ تَكَلَّمَ بِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ بَلَغَ المَبْلَغَ الذي يَتَكَلَّمُ فيهِ الصِّبْيانُ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ اللهَ جَعَلَهُ نَبِيًّا كَمَا مَرَّ في الآيةِ السَّابِقَةِ، وَجَعَلَهُ مُبَارَكًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكونَ نَبِيًا رَسُولًا ثُمَّ لَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى دِينِ اللهِ، ويبلِّغُهم رِسالَتَهُ، ثمَّ أَيُّ بَرَكَةٍ تَكونُ فِيهِ إِذَا لَمْ يَتَكَلَّمَ بِخَيْرٍ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الأَمرَ لَيْسَ كما قَالوا، فالبَرَكَةُ هِيَ عنوانٌ لكُلِّ خَيْرٍ وَصَلاحٍ، واللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} أوصاني: أَمَرَني، و "بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ" يُحْتَمَلُ أَنَّها الصَّلاةُ المَعْروفَةُ، والزَّكاةُ المَعْهودَةُ. وَيُحْتَمَلُ: أَنْ يكونَ المُرادُ بالصَّلاةِ: الثَنَاءَ عَلَى اللهِ تَعَالى ودُعاءَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وفي كُلِّ مَكانٍ، وأَنَّ المُرادَ بالزَّكاةِ: كُلُّ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ وَتَصْلُحُ مِنَ خَيْرٍ.
فإِنْ كانَ الأَوَّلَ، أَيْ: الصَّلاةَ المَفْروضَةَ والزَّكاةَ المَعْروفَةَ، فهوَ عَلَى تَعْليمِ النَّاسِ، فَكأَنَّهُ قَالَ: أَوْصاني أَنْ أُعَلِّمَ النَّاسَ الصَّلاةَ، وَأُعَلِّمَهم الزَّكاةَ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ عيسى مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ، فَيُخَرَّجُ عَلى تَعْليمِ النَّاسِ أَحْكامَ الزَّكاةِ. وإِنْ كانَ الثاني فَهُوَ وَغَيْرُهُ فيه سَواءٌ، وللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} الواوُ: للعطْفِ، و "جَعَلَني" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على اللهِ تَعَالَى، والنُّونُ للوِقايَةِ، وَياءُ المُتكَلِّمِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى كَوْنِهِ المَفْعولُ الأَوَّلُ لَـ "جَعَلَ". وَ "مُبارَكًا" مفعولُهُ الثاني مَنْصوبٌ بِهِ والجُملةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} على كونِها في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ.
قولُهُ: {أَيْنَ ما كُنْتُ} أَيْنَ: اسْمُ شَرْطٍ جازِمٍ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الظَّرْفِيَّةِ المَكانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ شَرْطِهِ أَوْ بِجوابِهِ المَحْذوفِ، و "ما" زائدةٌ للتوكيدِ، وَ "كُنْتُ" فِعْلٌ مَاضٍ تَامٍّ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "أَيْنَ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، والتاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ النَاقِصَةَ، والتاءُ اسْمُها، وَ "أَيْنَ" مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرِهَا المُقَدَّمِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ: مَحْذوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، والتقديرُ: أَيْنَمَا كُنْتُ جَعَلَني مُبَارَكًا، أَوْ جَوابُه هوَ نَفْسُ المُتَقَدِّمِ ـ عِنْد مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ"، وَلَا يَجوزُ أَنْ تَكونَ "أَيْنَ" للاسْتِفْهامِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَعْمَلَ فِيها مَا قَبْلَها، وأَسْماءُ الاسْتِفْهامِ لَهَا صَدْرُ الكلامِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكونَ شَرْطِيَّةً لِأَنَّها مُنْحَصِرَةٌ فِي هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ.
قوْلُهُ: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} الوَاوُ: للعطْفِ، وَ "أَوْصَانِي" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لِتَعَذُرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على اللهِ تعالى، والنُّونُ للوِقايَةِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ، و الجملةُ في محلِّ النَّصْبِ عطْفًا عَلَى جُمْلةِ قولِهِ {آتَانِيَ الْكِتَابَ}. و "بِالصَّلَاةِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "أَوْصَانِي"، و "الصَّلاةِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "الزَّكَاةِ" مَعْطوفٌ عَلَى "الصلاةِ" مجرورٌ مثلُهُ.
قوْلُهُ: {مَا دُمْتُ حَيًّا} مَا: مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ. و "دُمْتُ" فِعْلٌ ماضٍ نَاقِصٌ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ، والتاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ اسْمُهُ في مَحَلِّ الرَّفعِ. و "حيًّا" خَبَرُهُ منصوبٌ بِهِ. وَالجُمْلَةُ صِلَةُ "مَا" المَصْدَرِيَّةِ، لا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَ "مَا" مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بإِضَافَةِ الظَّرْفِ المُقَدَّرِ إِلَيْهِ، وَالظَّرْفُ المُقَدَّرُ مُتَعَلَّقٌ بِـ "أَوْصَانِي" والتقديرُ: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مُدَّة دَوَامِي حَيًّا.