وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52).
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} أَيْ: كَلَّمْنَاهُ، كَمَا قالَ فِي سُورَةِ (طَهَ): {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} الآيتانِ: (11 و 12). وكما قالَ منْ سُورةِ النَّمْلِ: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} الآيات: (8 ـ 10). وكمَا قالَ ـ جَلَّ وعَلا، فِي الآيَةِ: 30. مِنْ سُورَةِ القَصَصِ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
و "الطُّور" هوَ الجَبَلُ، فقيلَ هو جَبَلٌ بَيْنَ مِصْرَ وَمَدْيَنَ، يُقَالُ: اسْمُهُ الزُّبَيْرُ، وَقِيلَ هوَ جَبَلٌ بِالشَّامِ نَاداهُ اللهُ مِنْ نَاحِيَتِهِ اليُمْنَى.
وَ "الأَيْمَنِ"، قِيلَ المُرادُ بِهِ يَمِينُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الجَانِبَ كانَ عَنْ يَمِينِ مُوسَى حِينَ أَقْبَلَ مِنْ مَدْيَنَ مُتَوَجِّهًا إِلَى مِصْرَ، فإِنَّ الشَّجَرَةَ التي سَمِعَ النِّداءَ مِنْهَا كانَتْ فِي ذَلِكَ الجَانِبِ، وَلَيْسَ المُرادُ يَمِينُ الجَبَلِ نَفْسِهِ، فإِنَّهُ لَا يَمِينَ للجِبَالِ وَلَا شِمَالَ.
وَقيلَ المَعْنَى المُرادُ بـ "الأَيْمَنِ" المَيْمونُ. وَمَعْنِّى النِّداءِ أَنَّهُ تَمَثَّلَ لَهُ الكَلامُ مِنْ ذَلِكَ الجانِبِ، واللهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: المُرادُ جانِبُ الجَبَلِ الأَيْمَنِ. وَعَلَيْهِ فهَذَا صَريحٌ فِي أَنَّ المُرادَ بِالطُّورِ هُوَ الذي عِنْدَ بَيْتِ المَقْدِسِ ـ كما تقدَّمَ، لَا الطُّورُ الذي عِنْدَ السُّوَيْسِ، لِأَنَّهُ يَكونُ عَلَى يَسَارِ المَتَوَجِّهِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ كَمَا هُوَ مَحْسُوسٌ. ورُوِيَ أَنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ: (أَتاني مِنْ جَبَلِ طُورِ سِينَاءَ، واطْلع مِنْ جَبَلِ سَاعُورَا، وَظَهَرَ مِنْ جَبَلِ فَارانَ)، وَمَعْنى هَذا: أَتَاني وَحْيُ رَبِّي مِنْ جَبَلِ طُورِ سِينَاءَ، "واطلَعَ مِنْ جَبَلِ سَاعُورا"، أَيْ: أَتَى وَحْيُ عِيسَى مِنْ جَبَلِ سَاعُورَا، وَأَتَى وَحْيُ مُحَمَّدٍ فِي جَبَلِ فارانَ؛ فَهُوَ عَلَى اليُمْنِ: يَمْنِ الجَبَلِ وَبَرَكَتِهِ.
قوْلُهُ: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قَرَّبْنَاهُ: قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما: قَرَّبَهُ مِنْ أَعْلَى الحُجُبِ حَتَى سَمِعَ صَريفَ القَلَمِ الذي كُتِبَ بِهِ أَلْوَاحَ التَّوْراةُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي العالِيَة ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَيْ: أَدْنَيْنَاهُ بِتَقْريبِ المَنْزِلَةِ حَتَّى كَلَّمْنَاهُ، والنَّبِيُّ بِمَعْنَى المُنَاجِي كَالجَلِيسِ والنَّديمِ؛ فَالتَقْريبُ هُنَا هُوَ تَقْريبُ التَّشْريفِ وَالتَكْريمِ، مُثِّلَتْ حَالُهُ بِحَالِ مَنْ قَرَّبَهُ المَلِكُ لِمُنَاجَاتِهِ.
وقالَ أَبُو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ في "معاني القرآنِ وإعرابُهُ" لَهُ: قَرَّبَهُ مِنْهُ في المَنْزِلَةِ حَتَّى سَمِعَ مُنَاجاتِهِ.
وَقالَ ابْنُ بَحْرٍ، عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَبُو الحَسَنِ البَغْدَاديُّ: إِنَّهُ قَرَّبَهَ تَقْريبَ كَرَامَةٍ واصْطِفَاءٍ لَا تَقْريبَ اجْتِذَابٍ وِإدْنَاءٍ، لِأَنَّهُ ـ سُبحانَهُ وتعالى، لَا يُوصَفُ بِالحُلول في مَكانٍ دُونَ مَكَانٍ فَيُقَرِّبُ مَنْ بَعُدَ عنْهُ، أَوْ يُبْعِدُ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ قرَّبَهُ مِنَ المَوْضِعِ الذي شَرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ بِسَمَاعِ كَلامِهِ ـ وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وقالَ أَهْلُ التَأْويلِ: هُوَ تَقْريبٌ بِالمَكَانِةِ، وَهوَ عِنْدَنَا تَقْريبُ المَنْزِلَةِ وَالقَدْرِ والفَضْلِ، وهَذَا هُوَ الأَسْلَمُ.
فَقَدْ جَمَعَ لَهُ النِّداءَ في بِدَايَتِهِ، والنَّجْوَى والسَّماعَ في نِهَايَتِهِ، وللنَّجُوَى مَزِيَّةٌ عَلَى النِّداءِ.
و "نَجِيًّا": مِنَ المُنَاجَاةِ، أَيْ: نَاجَاهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ سِوَاهُما، وَسُمِّي مُوسَى بِهَذا؛ لِأَنَّه أَخْلَصَ نَفْسَهُ للهِ وَسَلَّمَها لَهُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ المُصَلِّي: مُنَاجِيًا رَبَّهُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الخَبَرِ "انْظُرْ مَنْ تُنَاجِي" حَيْثُ فَرَّغَ نَفْسَهُ عَنْ جَمِيعِ الأَشْغَالِ، وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ فَسُمِّيَ لِذَلِكَ مُنَاجِيًا، واللهُ تعالى أَعْلَمُ.
قال ابْنُ الأَنْبارِي: معناه: مُناجيًا، فعبَّرَ بِـ "فَعيلٍ" عَنْ "مُفَاعِل"، كَمَا قَالُوا: فُلانٌ خَلِيطِي وَعَشِيرِيِ: يَعْنُونَ: مُخالِطِي وَمُعَاشِرِي.
وقالَ قطرب أَبُو عَليٍّ مُحَمَّدُ بْنُ المُسْتَنيرِ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّجْوَى، والنَّجْوَى لَا تَكونُ إِلَّا فِي الخَلْوَةِ.
وقيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّجَاةِ، نَجَّاهُ لِصِدْقِهِ. وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ النَّجْوَةِ، وَهُوَ الارْتِفاعُ، فَقَدْ رَفَعَ اللهُ مَقَامَهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّبَهُ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَمْ يَبْلُغْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَّلامُ، مِنَ الكَلامِ الذي نَاجَاهُ بِهِ شَيْئًا.
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} الوَاوُ: للعطْف، و "نَادَيْنَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِه بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هوَ "نَا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبحانَهُ، و "نَا" التَّعْظيمِ هذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "كَانَ" الأُولَى. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ناديْنَا"، و "جَانِبِ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وَ "الطُّورِ" مَجْرُورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. و "الْأَيْمَنِ" صِفَةٌ لِـ "جَانِبِ" مجرورةٌ مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} الوَاو: للعَطْفِ، و "قَرَّبْنَاهُ" مثلُ "ناديْنَاهُ"، مَعطوفٌ عليْهِ. و "نَجِيًّا" منصوبٌ على الحالِ مِنْ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ فِي "ناديناه" و "قَرَّبْنَاهُ"، وَالجُملةُ معطوفةٌ على جملةِ "ناديناهُ" على كونِها في محلِّ الرَّفعِ.