قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} أَنَّى: للاسْتِفْهامِ عَنِ الكَيْفِيَّاتِ التي يُمْكِنُ أَنْ تَتِمَّ بِها هَذِهِ الولادَةُ، وكيفَ سَيَتِمُّ ذَلِكَ. فقد تَعَجَّبتِ السَّيِّدَةُ مريَمُ العذْراءُ ـ عَلَيْها السَّلامُ، مِنْ بِشارةِ المَلاكِ جِبْريلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَهَا بالوَلَدِ، وَهِيَ مَا تَزَالُ عَذْراءَ، لَمْ يَسْبِقْ لَهَا أَنْ تَزَوَّجْتْ بِرجُلٍ، وَلَمْ يَمْسَسْهَا بَشَرٌ البَتَّةَ. وَإِنَّمَا تَعَجَّبَتْ بِمَا بَشَّرَهَا بِهِ جِبْرِيلُ لِأَنَّهَا عَرَفَتْ بِالْعَادَةِ أَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بمُعاشَرَةِ رَجُلٍ، فَلَيْسَ فِي قَوْلِهَا: "أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ" دَلَالَةٌ َعَلى أَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ ـ سُبْحانَه وتَعَالَى، قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْوَلَدِ ابْتِدَاءً، لِأَنَّهَا كَانَتْ مُتَفَرِّغَةً للْعِبَادَةِ، وَمَنْ يَكُنْ هَذَا شَأْنُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ اللهَ ـ جَلَّ وعَزَّ، قادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، ولا يعجزُهُ شَيْءٌ. وَلا شَكَّ في أَنَّها قَدْ عَرَفَتْ أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، خَلَقَ آدَمَ أَبَا الْبَشَرِ مِنْ قبلُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ.
إذًا فهيَ لَمْ تَسْتَبْعِدْ شَيْئًا مِنْ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّها أَرَادَتْ أَنْ تَعْرِفَ كَيْفَ يَكُونُ الحمْلُ بهَذَا الوَلَدِ، وَكَيْفَ تَتِمُّ هَذِهِ الوِلادَةُ، أَبِالْزَّواجِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى سيخلُقُهُ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ زَوَاجٍ؟.
قوْلُهُ: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} لقد جاءَتْ فِي القُرْآنِ الكَريمِ كَلِمَةُ: "مَسَّ" للدَّلالَةِ عَلى الجِمَاعِ، قالَ اللهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} الآيَةَ: 236، فدَلَّ عَلى أَنَّ المُرادَ بِالْمَسِّ هُو الجِماعُ، ولِذَلِكَ فَإنَّ الإِمامُ الأَعْظَمَ أَبُو حَنيفَةَ النُعْمانِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ فسَّرَ قَوْلَهُ تَعَالى منْ سورةِ النِّساءِ: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّساءَ} الآيةَ: 43، بِأَنَّهُ الجِمَاعُ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ القُرْآنَ الكريمَ أَطْلَقَ المَسَّ، وَأَرادَ بِهِ النِّكاحَ الشَّرْعِيَّ، وَإِنَّما يكونُ فِعْلُ المَسِّ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ، أَمَّا المُلامَسَةُ فإنها مُفَاعَلَةٌ بَيْنَ الطَرَفَيْنِ.
قوْلُهُ: {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} الْبَغِيُّ: هِيَ المَرْأَةُ الْفَاجِرَةُ الَّتِي تَبْغِي الرِّجَالَ، وتَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيهم وتَدعوهم إِلَيْها، والبِغَاءُ: هوَ الزِّنا، وَهُوَ "فَعَوْلٌ" عِنْدَ الْمُبَرِّدِ "بَغُوْيٌ"، فاجْتَمَعَتِ الياءُ والواوُ، فَأُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ، قال العُكبُريُّ: وَلِذَلِكَ لَمْ تَلْحَقْ تاءُ التَأْنيثِ كَمَا لَمْ تَلْحَقْ فِي "صَبُورٍ" و "شَكورٍ". وَقَالَ أبو الفتحِ عُثمانُ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ "التَّمَامِ": هُوَ "فَعِيلٌ" وَلَوْ كَانَ "فَعُولًا" لَقِيلَ "بَغَوْا" كَمَا قِيلَ "نَهَوْا" عَنِ الْمُنْكَرِ. وَلَمْ يُعْقِبْهُ بِنَكِيرٍ. ومَنْ قالَ: إِنَّها "فَعِيْل" فَهَلْ هِيَ بِمَعْنَى "فاعِلٍ" أَوْ بِمَعْنَى "مَفعول"؟. فَإِنْ كانَتْ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكونَ بِتاءِ التَأْنيثِ نَحْوَ: امْرَاةٌ قديرةٌ، وبَصيرَةٌ. وأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّها بِمَعْنَى النَّسَبِ، ك "حائِضٍ" و "طَالِقِ"، أَيْ: ذاتُ بَغْيٍ. وقالَ العُكْبُريُّ حِينَ جَعَلَها بِمَعْنَى "فاعِل": ولمْ تَلْحَقِ التاءُ أَيْضًا لأَنَّها للمُبَالَغَةِ. فَجَعَلَ العِلَّةَ فِي عَدَمِ اللِّحاقِ كَوْنَ الصِّيغَةِ للمُبَالَغَةِ، وَلَيْس بِشَيْءٍ. وَإنْ قِيلَ بِأَنَّها بِمَعْنَى "مَفْعول" فَعَدَمُ وجودِ الياءِ وَاضِحٌ.
وَقَدْ أُفْرِدَ الْبِغَاءِ بالذِكْرِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الْكَلَامِ الْأَوَّلِ "وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ" لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَا فِي بَابِهِ. فَقَدْ أَعَادَتَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى مِنْ سُورَةِ البَقَرةِ: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ} الآيَةَ: 98، وَكَمَا قالَ في الآيَةِ: 238، مِنْها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وقوموا للهِ قانِتِينَ}، فَكَذَلكَ هُوَ هَهُنا.
وَقالَتْ مَرْيمُ ـ عَلَيْها السَّلامُ، فِي الآيَةِ: 47، مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ}، فَلَمْ تَذْكُرِ الْبِغَاءَ لأَنَّهَا جَعَلَتِ الْمَسَّ عِبَارَةً عَنِ النِّكَاحِ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الْآيةَ: 49، وَالزِّنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا يُقَالُ فَجَرَ بِهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهَا وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا تَبْرِئَةٌ لِنَفْسِهَا مِنَ الْبِغَاءِ بِمَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الكونِ "أَكُ" مِنْ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ خَبَرُ "الْكَوْنِ"، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَأْكِيدُ النَّفْيِ فَمُفَادُ قَوْلِهَا: "وَلَمْ أَكُ" بَغِيًّا غَيْرُ مُفَادِ قَوْلِهَا وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، وَهُوَ مِمَّا زَادَتْ بِهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى مَا فِي قِصَّتِهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، لِأَنَّ قِصَّتَهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ فَصَحَّ الِاجْتِزَاءُ هُنَا فِي الْقِصَّةِ بِقَوْلِهَا: "وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ".
قوْلُهُ تَعَالى: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} قَالَتْ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ عَلى الفَتْحِ، والتاءُ الساكنةُ لِتَأْنيثِ الفاعلِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا يَعودُ عَلى "مَرْيَمَ" عَلَيْها السَّلامُ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "أَنَّى" اسْمُ اسْتِفْهَامٍ للتَعَجُّبِ بِمَعْنَى "كَيْفَ" مبنيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ. و "يَكُونُ" فِعْلٌ مُضارِعٌ ناقِصٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازمِ. و "لِي" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "يَكُونُ" المُقَدَّمِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضَمِيرٌ مُتَّصِل بهِ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "غُلَامٌ" اسْمُ "كان" مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ. وَجُمْلَةُ "يَكُونُ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ".
قوْلُهُ: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} الواوُ: حاليَّةٌ، و "لَمْ" حَرْفُ نَفْيً وَجَزْمٍ وقلْبٍ. و "يَمْسَسْنِي" فعلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بِـ "لَمْ"، والنُّونِ: للوِقايَةِ، والياءُ: ضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعولِيَّةِ, و "بَشَرٌ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِنَ الياءِ فِي "لِي".
قوْلُهُ: {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "لَمْ" حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ وقلبٍ. و "أَكُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ ناقِصٌّ مَجْزُومٌ بِـ "لَمْ" وَعَلامَةُ جَزْمِهِ سُكونٌ ظاهِرٌ عَلَى النُّونِ المَحْذوفَةِ للتَّخْفيفِ، واسْمُها ضَميرٌ مُسْتترٌ فيها وُجوبًا تقديرُهُ "أَنَا" يَعُودَ عَلى السَّيِّدَةِ "مَرْيَمَ" ـ عليها السَّلامُ. و "بَغِيًّا" خَبَرُها مَنْصوبٌ بها، والجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالَ عَطْفًا عَلَى "لم يَمْسَسْنِي".