إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} أَصْلُ النِّدَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِطَلَبِ الْإِقْبَالِ. وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ طَلَبُ الإِقْبَالِ لِعَمَلٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ تَوَجُّهُ الذِّهْنِ لِاسْتِيعابِ الكَلَامِ ووَعْيِهِ، فَلِذَلِكَ سَمُّوا الْحُرُوف الَّتِي يُفْتَتَحُ بِهَا طَلَبُ الْإِقْبَالِ: حُرُوفَ النِّدَاءِ. كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الدُّعَاءِ لِطَلَبِ حَاجَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نِدَاءٌ، لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ جَهْرًا وَتَضَرُّعًا فإنَّهُ أَوْقَعُ فِي نَفْسِ الْمَدْعُوِّ. وقَالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: إِنَّ اللهُ يُحِبُّ الصَّوْتَ الْخَفِيَّ وَالْقَلْبَ النَّقِيَّ.
إِذًا فالدُعاءُ هُنَا: هُوَ الْكَلَامِ، إِذْ قَالَ زَكَرِيَّا ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: بِصَوْتٍ خَفِيٍّ (يَا رَبِّ)، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِذْ نَادَى ربه نِدَاء خفِيَّا" أَيْ: بِقَلْبِهِ سِرًّا. وَإِنَّمَا كَانَ كلامُهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، خَفِيًّا لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ أَدْخَلَ فِي الْإِخْلَاصِ للهِ تَعَالَى، مَعَ رَجَائِهِ بأَنَّهُ ـ جَلَّ وعَزَّ، يُجِيبُ دُعاءَهُ، حَتَّى لَا تَكُونَ اسْتِجَابَةُ دُعَائهِ مِمَّا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، فَاخْتَارَ لِدُعَائِهِ السَّلَامَةَ مِنْ أَنْ يُخَالِطَهُ الرِّيَاءُ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا" قَالَ: لَا يُرِيدُ رِيَاءً.
وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهِ نِدَاءً وَكَوْنِهِ خَفِيًّا، لِأَنَّهُ نِدَاءُ مَنْ يَسْمَعُ الْسِّرَّ وأَخَفَى ـ سُبْحانهُ وتَعَالَى.
قولُهُ تَعَالَى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} إِذْ: ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ {رَحْمَةِ رَبِّكَ} مِنَ الجُمْلَةِ الَّتي قَبْلَها؛ أَيْ: رَحْمَةَ اللهِ ربِّهِ إِيَّاهُ وَقْتَ نِدَائِهِ. وَفي ناصِبِهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهُا: أَنَّهُ {ذِكْرُ} ولمْ يَذْكُرِ الحُوفِيُّ غَيْرَهُ. وَالثاني: أَنَّهُ {رَحَمْةَ}، وذكر أَبو البَقَاءِ العُكْبُريُّ الوَجْهَيْنِ. والثالثً: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ {زَكَرِيَّا} بَدَل اشْتِمالٍ، لِأَنَّ الوَقْتَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ، وسِيَأْتي مِثْلُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ في الآيةِ: 16، مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ} وَنْحْوِ ذلكَ. وَ "نَادَى" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقَدَّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِهِ عَلى الأَلِفِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ جَوَازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى {عَبْدَهُ}. و "نِدَاءً" منصوبٌ عَلى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ. و "خَفِيًّا" صِفَةٌ لَهُ مَنْصُوبَةٌ مِثْلُهُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ مُضَافٌ إِلَيْهِ لِـ "إِذْ".