فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} لَمَّا سَمِعَتْ مِنْ قَوْمِها مَا سَمِعَتْ مِنْ لومٍ وتوجيهِ الاتِّهامِ، بَيَّنَتْ نَذْرَها، وأَنَها في صَوْمٍ يَمْنَعُها مِنْ مُحاوَرَةِ النَّاسِ وَالرَّدِ عَلَيْهِمْ، أَحَالَتْهم عَلَى طِفْلِها الوَلِيدِ لِسَمَاعِ الرَّدِّ مِنْهُ، وذَلِكَ بِأَنْ أَشَارَتْ إِلَيْهِ إِشَارَةً دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا تُحِيلُهُمْ عَلَيْهِ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ قِصَّتِهِ، أَوْ أَشَارَتْ إِلَيهم بِأَنْ يَسْمَعُوا الْجَوَابَ مِنْهُ، وَقَدْ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ إِشَارَتِهَا.
وَلَمَّا كَانَتْ إِشَارَتُهَا بِمَنْزِلَةِ مُرَاجَعَةِ كَلَامٍ، حُكِيَ حِوَارُهُمُ عَقِبَ الْإِشَارَةِ بِجُمْلَةِ الْقَوْلِ مَفْصُولَةٍ غَيْرِ مَعْطُوفَةٍ. وَالإِشارَةُ مَعْرُوفةٌ، وَقَدْ تَكونُ بِالْيَدِ أَوِ العَيْنِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: (تُريدُ أَنْ كَلِّمُوهُ، ـ وهوَ يَرْضَعُ، فَنَظَرَ بَعْضُهم إِلَى بَعْضٍ تَعَجُّبًا مِنْها حِينَ أَشَارَتْ إِلَيْهِ). أَخْرَجَهُ الطَّبريُّ في تَفْسيرِهِ "الجامِعِ لأَحْكامِ القُرْآنِ" (11/102).
وأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ": أَنْ كَلِّمُوهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ"، قَالَ: أَمَرَتْهُمْ بِكَلَامِهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُون، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَرْيَمَ ـ عليها السَّلامُ، لَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْ بِهِ قَومَهَا فَأَخَذُوا لَهَا الْحِجَارَة لِيَرْمُوهَا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ، فَتَكَلَّمَ، فَتَرَكُوهُا.
قالوا: وَأَلِفُ "أَشارتْ" مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ. وَأَنْشَدُوا على ذلكَ بيتًا لكُثَيِّرِ عَزَّةَ يقولُ فِيهِ:
فَقُلْتُ ـ وَفي الأَحْشَاءِ دَاءٌ مُخامِرُ .......... أَلَا حَبَّذا يَا عَزُّ ذَاك التَّشَايُرُ
قوْلُهُ: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، فقد أَنْكَرُوا أَنْ يُكَلِّمُوا مَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الكَلامُ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْها إِحالَتَهُمْ عَلَى مُكَالَمَتِهِ، فَكَيْفَ نُلْقِي عَلَيْهِ السُّؤَالَ؟ وكيفَ ننتَظِرُ مِنْهُ الجوابَ، لِأَنَّ الْحَالَتَيْنِ تَقْتَضِيَانِ التَّكَلُّمَ. قالَ السُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: (لَمَّا أَشَارَتْ إِلَيْهِ، غَضِبُوا، وَقالوا: سُخْرِيَتُها بِنَا حَيْثُ تَأْمُرُنَا أَنْ نَسْأَلَ هَذا الصَّبِيَّ أَعْظَمُ عَلَيْنا مِمَّا صَنَعَتْ). "تفسير القرآن العظيم" لابْنِ كثيرٍ: (3/133)، و "الجامعُ لأَحْكامِ القُرْآنِ" للقرطُبي: (11/102).
وَ "المَهْدُ" هوَ الْحِجْرُ. قالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، والكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم: (يُريدُونَ: في الحِجْرِ رَضِيعًا)،
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: المَهْدُ: المِرْباةُ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: المِرْباةُ المَرْجَحَةُ. وقالَ بعضُهم: المهدُ هو فِرَاشُ الصَّبِيِّ وَمَا يُمَهَّدُ لهُ لوَضْعِهِ فِيهِ لِيَنامَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: صَاحِبُ الراهبِ جُرَيْجٍ، وَعِيسَى، وَصَاحِبُ الحَبَشِيَّةِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: تَكَلَّمَ فِي المَهْدِ أَرْبَعَةٌ: عِيسَى، وَصَاحِبُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيِجٍ، وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ. واللهُ أعلمُ.
وَقَدْ قالوا: "كانَ" مُبَالَغَةً مِنْهُمْ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَعَجُّبٌ مِنِ اسْتِخْفَافِهَا بِهِمْ. لأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَظْرُوفِيَّةِ فِي الْمَهْدِ مِنْ الطِّفْلِ الَّذِي أُحِيلُوا عَلَى مُكَالَمَتِهِ، فَقيلَ: "كَانَ" زَائِدٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِأَنَّ "كَانَ" الزَّائِدَةُ غَالِبًا مَا تَأْتِي بِصِيغَةِ الْمَاضِي.
قوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} الفاءُ: للعَطْفِ والتَفْريعِ، و "أَشارَتْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ، والتاءُ الساكنةُ لتأْنيثِ الفاعِلِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَرْيَمَ" عليْها السَّلامُ. و "إِلَيْهِ" إلى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَشارَتْ" وَالجُمْلَةُ مُفَرَّعَةٌ عَلَى "قَالُوا" مِنَ الآيةِ: 27، السابقةِ، معطوفةٌ عَلَيْها، عَلَى كَوْنِها جُمْلةً مُسْتَأْنَفَةً لَيْسَ لها مَحلَّ مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ} قَالُوا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ. والجُمْلَةُ الفِعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. و "كَيْفَ" اسْمُ اسْتِفْهامٍ مبنيٌّ عَلى الفتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ. و "نُكَلِّمُ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضِميرٌ مسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "نحن" يَعودُ عَلى المُتَكَلِّمينَ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لـ "قَالُوا".
قوْلُهُ: {كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} كَانَ: فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ، واسْمُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "مَنْ". وفِي "كانَ" هَذِهِ أَقْوالٌ.
أَوَّلُهَا: أَنَّها زَائِدَةٌ قالَهُ أَبو عُبَيْدٍ، أَيْ: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ في المَهْدِ. وَعَلَيْهِ فـ "صَبِيًّا" مَنْصوبٌ عَلى الحالِ مِنَ الضَّميرِ المُسْتَتِرِ فِي الجارِّ وَالمَجْرُورِ الواقِعِ صِلَةً. وَقَدْ رَدَّ أَبو بَكْرٍ ابْنُ عبدِ البَرِّ هَذَا القَوْلَ بِأَنَّها لَوْ كانَتْ زائدَةً لَمَا نَصَبَتِ الخَبَرَ، وَهَذِهِ قَدْ نَصَبَتْ "صَبيًّا". وهوَ مَرْدُودٌ بِمَا تَقدَّمَ مِنْ كونِهِ نَصْبًا عَلَى الحالِ لَا الخَبَرِ.
الثاني: أَنَّهَا تامَّةٌ بِمَعْنَى "حَدَثَ" و "وُجِدَ". وَالتَقْديرُ: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ وُجْدَ صَبِيًّا، وعليْهِ فـ "صَبِيًّا" حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي "كَانَ".
ثالِثُها: أَنَّها بِمَعْنَى "صَارَ"، أَيْ: كَيْفَ نُكَلِّم مَنْ صارَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا، وعلى هذا فـ "صَبِيًّا" خَبَرُهَا، فَهُوَ كَقَوْلِ لعَمْرِو ابْنِ أَحْمَر الباهلي:
بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كَأَنَّهَا .......... قَطا الحَزْن قد كانَتْ فِراخًا بُيُوضُها
والرابعُ: أَنَّهَا النَّاقِصَةُ عَلَى بابِها مِنْ دَلَالَتِها عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الجُمْلَةِ بالزَّمانِ الماضِي مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ للانْقِطاعِ، فهي كالتي في قولِهِ تَعَالى مِنْ سُورةِ النِّساء: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} الآية: 96، وَلِذَلِكَ يُعَبَّرُ عَنْها بِأَنَّها تُرادِفُ "لَمْ تَزَلْ". قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: "كانَ" لِإِيقاعِ مَضْمونِ الجُمْلَةِ فِي زَمانٍ ماضٍ مُبْهَمٍ صَالِحٍ للقَريبِ والبَعيدِ، وهوَ هُنَا لِقَريبِهِ خاصَّةً، وَالدالُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الكَلامِ، وأَنَّهُ مَسُوقٌ للتَّعَجُّبِ.
وَثمَّةَ وَجْهٌ آخَرُ، وَهوَ: أَنْ يَكونَ "نُكَلِّمُ" حِكايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ، أَيْ: كَيْفَ عُهِدَ قَبْلَ عِيسَى أَنْ يُكَلِّمَ النَّاسُ صَبِيًّا فِي المَهْدِ حَتَّى نُكَلِّمَهُ نَحْنُ؟ وأَمَّا "مَنْ" فالظاهِرُ أَنَّها مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى "الذي". وَيَضْعُفُ جَعْلُهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، أَيْ: كَيْفَ نُكَلِّمُ شَخْصًا أَوْ مَوْلُودًا.
وجَوَّزَ الفَرَّاءُ والزَجَّاجُ فِي "مَنْ" أَنْ تَكونَ شَرْطِيَّةً. وَعليْهِ فـ "كانَ" هنا بِمَعْنَى "يَكُنْ"، وَجَوابُ الشَّرْطِ: إِمَّا مُتَقَدِّمٌ، وَهوَ "كَيْفَ نُكَلِّمُ"، أَوْ مَحْذوفٌ لِدَلالَةِ هَذَا عَلَيْهِ، أَيْ: مَنْ يَكُنْ فِي المَهْدِ صَبِيًّا فَكيْفَ نُكَلِّمُهُ؟. فَهِيَ عَلى هَذَا مَرْفوعَةُ المَحَلِّ بالابْتِداءِ، وَعَلى مَا قَبْلِهِ مَنْصُوبَتُهُ بـ "نُكَلِّمُ". وإِذَا قِيلَ بِأَنَّ "كانَ" زائدَةٌ. هَلْ تَتَحَمَّلُ ضَمِيرًا أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلافٌ، وَمَنْ جَوَّزَهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِ الفَرَزْدَقِ:
فَكَيْفَ إِذَا مَرَرْتَ بِدارِ قَوْمٍ ...................... وَجِيرانٍ لَنَا كانوا كِرَامِ
فَرَفَعَ بِهَا الواوَ. وَمَنْ مَنَعَ تَأَوَّلَ البَيْتَ بِأَنَّها غَيْرُ زَائِدَةٍ، وَأَنَّ خَبَرَهَا هوَ "لَنَا" قُدِّمَ عَلَيْها، وَفُصِلَ بِالجُمْلَةِ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ. و "فِي" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنِ اسْمِ "كَانَ". و "الْمَهْدِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "صَبِيًّا" خَبَرُ "كَانَ" وَجُمْلَةُ "كَانَ" هي صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ فلَيْسَ لَهَا محلٌّ مِنَ الإعرابِ.
قرَأَ العامَّةُ: {في المَهْدِ صَبيًّا} بِإِخْفاءِ الدَّالِ في الصَّادِ، وَقَرَأَ أَبو عَمْروٍ بِدَغْمِ الدَّالَ في الصَّادِ.