وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ (يس): {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} الآيةِ: 58. أَيْ: عَلَيْهِ أَمَانٌ مِنَ اللهِ تَعَالى، والسَّلامُ: والصُّلْحُ الأَمْنُ والسَّلامةُ، والسَّلامُ: تحيَّةٌ يَتَبَادَلَهَا المسلمونَ فيما بينهم، وتعني حينَ تقولُها لأَخِيكَ: أَنْتَ ومالُكَ وَعِرْضُكُ في أمانٍ مِنِّي لا ينالكَ مني أَيُّ أذًى أَوْ إِسَاءَةٍ. والسَّلامُ: اسْمٌ للْكَلَامِ الَّذِي يَفْتَتِحُ بِهِ القادِمُ يَتَعَهَّدُ فيِهِ بسَلامَةِ السَّامِعِيْنَ في كلِّ مَا قَدْ يُبَادِرُ بهِ، أَيْ: هُوَ مُسَالِمٌ لَهُم لَا يُخْشَى مِنْهُ بَأْسٌ، أَوْ يَصْدُرُ عَنْهُ شَرٌّ تِجاهَهُمْ، وَيكونُ للرَّاحِلِ دعاءً لهُ بِسَلَامَتِهِ. والمُرادُ بِالسَّلَامِ المعرَّفِ بِالأَلِفِ واللَّامِ مِثْلُ الْمُرَادِ بِالْمُنَكَّرِ مِنْهُ، أَوْ مُرَادٌ بِهِ الْعَهْدُ، أَيْ سَلَامٌ إِلَيْهِ. وفِيهِ ثَنَاءٌ مِنَ اللهِ تَعَالى عَلَى نَبِيِّهِ "يَحْيَى" عَلَيْهِ السَّلامُ.
قولُهُ: {يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} مَعْناهُ: عَلَيْهِ "يَوْمَ وُلِدَ" أَمَانٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَنَالَهُ الشَّيْطانُ بِمَا يَنَالُ بِهِ بَنِي آدَمَ، وعَلَيْهِ أمانٌ مِنْ وَحْشَةِ فِراقِ الدُنْيَا "يَوْمَ يَمُوتُ"، وَعَلَيْهِ "يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًا" أَمَانٌ مِنْ أَهْوالِ يومِ القيامَةِ وَعذابهِ. وَالمُرَادُ التَّحِيَّةُ والتَشْريفُ لهُ فِي المَوَاطِنِ التي يَكونُ فِيها العَبْدُ في غايَةِ الفَقْرِ والحاجَةِ إِلَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وَالضَّعْفِ قِلَّةِ الحِيلَةِ.
أَخْرَجَ الأئمَّةُ: عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِي اللهُ عنْهُ، قَالَ: إِنَّ عِيسَى وَيَحْيَى ـ عليْهِما السَّلامُ، الْتَقَيَا، فَقَالَ يَحْيَى لِعِيسَى: اسْتَغْفِرْ لِي، أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي. فَقَالَ لَهُ عِيسَى: بَلْ أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، سَلَّمَ اللهُ عَلَيْكَ، وَسَلَّمْتُ أَنَا عَلَى نَفْسِي. قالَهُ تواضُعًا فَعُرِفَ فَضْلُهُما. وَقالَ الحَسَنُ: إِنَّ تَسْلِيمَهُ عَلَى نَفْسِهِ تَسْلِيمُ اللهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ اللهِ تعالى.
وَقدْ وردَ في فضلِ نبيِّ اللهِ يحيى ـ عليْهِ السَّلامُ، الكَثِيرُ مِنَ الأحاديثِ والآثارِ، مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ يَوْمًا وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ فَضْلَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ قَائِل: مُوسَى كَلَّمَهُ اللهُ تَكْليمًا. وَقَالَ قَائِلٌ: عِيسَى رُوحُ اللهِ وكَلِمَتُهُ. وَقَالَ قَائِل: إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَيْنَ الشَّهِيدُ ابْنُ الشَّهِيدِ، يَلْبَسُ الْوَبَرَ، وَيَأْكُلُ الشَّجَرَ مَخَافَةَ الذَّنْبِ، يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، والحكيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالْحَاكِمُ في المُسْتدْركِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقدْ أَخْطَأَ، أَوْ هَمَّ بِخَطيئَةٍ، إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، لَمْ يَهِمَّ بِخَطِيئَةٍ، وَلَمْ يَعْمَلْهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ بَني آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا ـ عليهِما السَّلامُ، مَا هَمَّ بِخَطِيئَةٍ، وَلَا حَاكَتْ فِي صَدْرِهِ امْرَأَة.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبيبٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَعَلَتِ النِّسَاءُ عَنْ وَلَدٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا أَفْضَلُ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا لَمْ يَحُكْ فِي صَدْرِهِ خَطِيئَةٌ، وَلَمْ يَهُمَّ بِهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَلْحَةَ، رَفَعَهُ، قَالَ: مَا ارْتَكَضَ فِي النِّسَاءِ مِنْ جَنِينٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا أَفْضَلُ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، لِأَنَّهُ لَمْ يَحُكْ فِي صَدْرِهِ خَطِيئَةٌ، وَلَمْ يَهُمَّ بِهَا.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، والضِّياءُ المَقْدِسيُّ، عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخدْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدا شَبابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ـ إِلَّا ابْنَيْ الْخَالَةِ، عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سَمُرَةَ عَنْ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، قَالَ: كَانَ يَحْيَى لَا يَقْرَبُ النِّسَاءَ، وَلَا يَشْتَهِيهِنَّ، وَكَانَ شَابًّا حَسَنَ الْوَجْهِ، لَيِّنَ الْجَنَاحِ، قَلِيلَ الشَّعْرِ، قَصيرَ الْأَصَابِعِ، طَوِيلَ الْأَنْفِ، أَقْرَنَ الحاجِبَيْنِ، رَقِيقَ الصَّوْتِ، كَثيرَ الْعِبَادَةِ، قَوِيًّا فِي الطَّاعَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: كَانَ طَعامُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا العُشْبُ، وَإِنْ كَانَ لَيَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى لَوْ كَانَ القَارُ عَلَى عَيْنِهِ، لَأَحْرَقَهُ، وَلَقَدْ كَانَتِ الدُّمُوعُ اتَّخَذَتْ مَجْرَى فِي وَجْهِهِ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: سَأَلَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْنِي أَسْلَمُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ، وَلَا يَقُولُونَ فيَّ إِلَّا خَيْرًا. فَأَوْحَى اللهُ تعالى إِلَيْهِ: يَا يَحْيَى لَمْ أَجْعَلْ هَذَا لِي، فَكَيْفَ أَجْعَلُهُ لَكَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيمانِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبَنَانِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ إِبْلِيسَ ظَهَرَ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا ـ عليْهِما السَّلامُ، فَرَأَى عَلَيْهِ مَعَالَيقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ الشَّهَوَاتُ الَّتِي أُصِيبَ بِهَا بَنُو آدَمَ. قَالَ لَهُ يَحْيَى: هَلْ لِي فِيهَا شَيْءٌ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تُصيبُ مِنِّي شَيْئًا؟ قَالَ: رُبَّمَا شَبِعْتَ فَثَقَّلْناكَ عَنِ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ. قَالَ: هَلْ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لَا جَرَمَ لَا أَشْبَعُ أَبَدًا.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيمانِ، وَضَعَّفَهُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أُبيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِنَّ مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلى اللهِ أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، قَتَلَتْهُ امْرَأَةٌ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ النَيْسابورِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، قَالَ: مَنْ أَنْكَرَ الْبَلَاءَ فَإِنِّي لَا أُنْكِرُهُ، لَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّما قُتِلَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي زَانِيَةٍ.
وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، رَأَى زَكَرِيَّا فِي السَّمَاءِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا يَحْيَى خَبِّرْني عَنْ قَتْلِكَ، كَيْفَ كَانَ؟ وَلِمَ قَتَلَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ؟. قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ يَحْيَى كَانَ خَيْرَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَأَجْمَلَهُمْ، وأَصْبَحَهُمْ وَجْهًا، وَكَانَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا}، وَكَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّسَاءِ فَهَوِيَتْهُ امْرَأَةُ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَتْ بَغِيَّةً فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ، وَعَصَمَهُ اللهُ، وَامْتَنَعَ يَحْيَى، وأَبَى عَلَيْهَا، وأَجْمَعَتْ عَلَى قَتْلِ يَحْيَى، وَلَهُمْ عِيدٌ يَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ عَامٍ، وَكَانَتَ سُنَّةُ الْمَلِكِ أَنْ يُوعِدَ وَلَا يُخْلِفُ، وَلَا يَكْذِبُ، فَخَرَجَ الْمَلِكُ للعِيدِ، فَقَامَتْ امْرَأَتُهُ فَشَيَّعَتْهُ، وَكَانَ بهَا مُعْجَبًا، وَلمْ تَكُنْ تَسْأَلُهُ فِيمَا مَضَى، فَلَمَّا أَنْ شَيَّعَتْهُ، قَالَ الْمَلِكُ: سَلِيني، فَمَا تَسْأَلِيني شَيْئًا إِلَّا أَعْطَيْتُكِ. قَالَتْ: أُرِيدُ دَمَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا. قَالَ لَهَا: سَلِيني غَيْرَهُ. قَالَتْ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: هُوَ لَكِ. فَبَعَثَ جَلَاوِزَتَهُ إِلَى يَحْيَى وَهُوَ فِي مِحْرَابِهِ يُصَلِّي، وَأَنَا إِلَى جَانِبِهِ أُصَلِّي، فَذُبِحَ فِي طِسْتٍ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ وَدَمُهُ إِلَيْهَا. فَقَالَ النَّبِي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا بَلَغَ مِنْ صَبْرِكْ؟. قَالَ: مَا انْفَتَلْتُ مِنْ صَلَاتي. فَلَمَّا حُمِلَ رَأْسُهُ إِلَيْهَا، وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهَا ـ فَلَمَّا أَمْسوا، خَسَفَ اللهُ بِالْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَحَشَمِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا، قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: لَقَدْ غَضِبَ إِلَهُ زَكَرِيَّا لِزَكَرِيَّا، فَتَعَالَوا حَتَّى نَغْضَبُ لِمَلِكِنَا، فَنَقْتُلُ زَكَرِيَّا. فَخَرَجُوا فِي طَلَبي لِيَقْتُلُونِي، فَجَاءَنِي النَّذيرُ فَهَرَبْتُ مِنْهُم، وَإِبْلِيسُ أَمَامَهُمْ يَدُلُّهُمْ عَلَيَّ: فَلَمَّا أَنْ تَخَوَّفْتُ أَنْ لَا أُعْجِزَهُمْ، عَرَضَتْ لِي شَجَرَةٌ، فنَادَتْني، فَقَالَتْ: إِلَيَّ، إِلَيَّ، وانْصَدَعَتْ لِي، فَدَخَلْتُ فِيهَا، وَجَاءَ إِبْلِيسُ، حَتَّى أَخَذَ بِطَرَفِ رِدَائي، والْتَأَمَتِ الشَّجَرَةُ، وَبَقِيَ طَرَفُ رِدَائي خَارِجًا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَجَاءَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: أَمَا رَأَيْتُمُوهُ دَخَلَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ؟. هَذَا طَرَفُ رِدَائهِ، دَخَلَ بِهِ الشَّجَرَةَ، فَقَالُوا: نَحْرِقُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: شُقُّوهُ بِالْمِنْشَارِ شَقًّا. قَالَ: فَشُقِقْتُ مَعَ الشَّجَرَةِ بِالْمِنْشَارِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا زَكَرِيَّا، هَلْ وَجَدْتَ لَهُ مَسًّا، أَوْ وَجَعًا؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا وَجَدَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ، جَعَلَ اللهُ رُوحِي فِيهَا.
وَأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ فِي الزّهْدِ مِنْ مُسْنَدِهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ يزِيدِ بْنِ مَيْسَرَةَ، قَالَ: كَانَ طَعَامُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الْجَرَادُ، وَقُلُوبُ الشَّجَرِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ أَنْعَمُ مِنْكَ يَا يَحْيَى؟ طَعَامُكَ الْجَرَادُ وَقُلُوبُ الشَّجَرِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَليِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جَدْعَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَليٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، قَالَ: كَانَ مَلِكٌ مَاتَ، وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ وَابْنَتَهُ، فَوَرِثَ مُلْكَهُ أَخُوهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَخِيهِ، فَاسْتَشَارَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْمُلُوكُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَعْملونَ بِأَمْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَتَزَوَّجْها، فَإِنَّهَا بَغِيٌّ، فَبَلَغَ الْمَرْأَةَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: لَيُقْتَلَنَّ يَحْيَى، أَوْ لَيُخْرَجَنَّ مِنْ مُلْكِهِ.
فَعَمَدَتْ إِلَى ابْنَتِهَا، فَصَيَّغَتْها، ثمَّ قَالَتْ: اذْهَبِي إِلَى عَمِّكِ عِنْدَ الْمَلَأِ، فَإِنَّهُ إِذا رَآكِ سَيَدْعُوكِ وَيُجْلِسُكِ فِي حُجْرِهِ، وَيَقُولُ: سَلِيني مَا شِئْتِ، فَإنَّكَ لَنْ تَسْأَلِيني شَيْئًا إِلَّا أَعْطَيْتُكِ، فَإِذا قَالَ لَكَ قُولِي: فَقُولِي لَا أَسأَلُكَ شَيْئًا إِلَّا رَأْسَ يَحْيَى. وَكَانَتِ الْمُلُوكُ إِذا تَكَلَّمَ أَحَدُهمْ بِشَيْءٍ عَلى رُؤُوسِ الْمَلَأِ، ثُمَّ لَمْ يَمْضِ لَهُ نَزْعٌ مِنْ مُلْكِهِ. فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَجَعَلَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ قَتْلِهِ يَحْيَى، وَجَعَلَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ خُرُوجِهِ مِنْ مُلْكِهِ، فَاخْتَارَ مُلْكَهُ، فَقَتَلَهُ، فَساخَتْ بِأُمِّها الأَرْض. قَالَ ابْنُ جَدْعَان: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الحَدِيثِ ابْنَ الْمُسَيَّبِ، فَقَالَ: أَمَا أَخْبَرَكَ كَيْفَ كَانَ قَتْلُ زَكَرِيَّا؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: إِنَّ زَكَرِيَّا حَيْثُ قَتُلَ ابْنُهُ ـ عليهِما السَّلامُ، انْطَلَقَ هَارِبًا مِنْهُم، واتَّبَعُوهُ حَتَّى أَتَى عَلَى شَجَرَةٍ ذَاتِ سَاقٍ، فَدَعَتْهُ إِلَيْهَا، فانْطَوَتْ عَلَيْهِ، وَبَقِيَتْ مِنْ ثَوْبِهِ هُدْبَةٌ تَلْعَبُ بِها الرِّيحُ، فَانْطَلقُوا إِلَى الشَّجَرَةِ، فَلَمْ يَجِدُوا أَثَرَهُ عِنْدَهَا، فَنَظَرُوا تِلْكَ الهُدْبَةِ، فَدَعَوا بالْمِنْشَارِ، فَقَطَعُوا الشَّجَرَةَ فَقَطَعُوهُ فِيهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: الَّتِي قَتَلَتْ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا امْرَأَةٌ وَرِثَتِ الْمُلْكَ عَنْ آبائها، فَأُتِيَتْ بِرَأْسِ يَحْيَى وَهِيَ عَلى سَريرِها، فَقَالَ لِلْأَرْضِ خُذِيها، فَأَخَذَتْهَا وَسَريرَهَا، فَذَهَبَ بِهَا.
وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَنَّ مَلِكًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ أَخِيهِ، فاسْتَفْتَى يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، قَالَ: لَا تَحِلُّ لَكَ. فَسَأَلَتْ قَتْلَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ـ وَهُوَ فِي مِحْرابِهِ يُصَلِّي، فَذَبَحُوهُ، ثُمَّ حَزُّوا رَأْسَهُ، وَأَتَوْا بِهِ الْمَلِكَ، فَجَعَلَ الرَّأْسُ يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لَكَ مَا تُرِيدُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: قُتِلَ عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي فِي بَيْتِ الْمُقَدَّسِ سَبْعُونَ نَبِيًّا، مِنْهُم يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ خَالِدِ بْنِ ثَابِتٍ الرَّبعِيِّ قَالَ: لَمَّا قَتَلَ فَجَرَةُ بْنِي إِسْرَائِيلَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، أَوْحَى اللهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائهمْ: أَنْ قُلْ لِبَني إِسْرَائِيلَ إِلَى مَتَى تَجْتَرِئونَ عَلى أَنْ تَعْصُوا أَمْرِي، وتَقْتُلوا رُسُلِي، وَحَتَّى مَتَى أَضُمُّكُمْ فِي كَنَفِي، كَمَا تَضُمُّ الدَّجَاجَةُ أَوْلَادَهَا فِي كَنَفِها، فَتَجْتَرِئونَ عَلَيَّ، اتَّقُوا لَا أُآخِذُاكْمِ بِكُل دَمٍ كَانَ بَيْنَ ابْنِيْ آدَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَاتَّقوا أَنْ أَصْرِفَ عَنْكُم وَجْهي، فَإِنِّي إِنْ صَرَفْتُ عَنْكُم وَجْهِي، لَا أُقْبِلُ عَلَيْكُم. إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ "سَلَامٌ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وسَوَّغَ الابْتِداءَ بِالنَّكِرَةِ، قَصْدُ الدُّعاءِ. و "عَلَيْهِ" حَرْفُ جَر ٍّمُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ المُبْتَدَأِ، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ مُعطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: {لَمْ يَكُنْ جَبَّارًا} لا مَحَلَّ لهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَ "يَوْمَ" مَنْصُوبٌ عَلى الظَرْفيَّةِ الزمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِخبَرِ المُبْتَدَأِ، وهوَ مُضافٌ. وَ "وُلِدَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ للمجهولِ. ونائبُ فاعِلِهِ ضَميرٌ مسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى نبيِّ اللهِ "يَحْيَى" عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ لِـ "يَوْمَ". و "وَيَوْمَ يَمُوتُ" مثلُ: "يومَ وُلِدَ" معطوفٌ عليْه. وَ "يَوْمَ يُبْعَثُ" أَيضًا معطوفٌ عَلَى "يَوْمَ وُلِدَ" ولهُ مثلُ إِعْرَابِهِ. و "حَيًّا" منصوبٌ على الحالِ مِنْ نائبِ فَاعِلِ "يُبْعَثُ".