قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أَيْ: رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلامَةً عَلَى أَنَّ امْرَأَتي حامِلٌ بِوَلَدِي يَحْيَى، وَكَأَنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كانَ مُتَعَجَّلًا الأَمْرَ، قَلِيلَ الصَّبْرِ، يُريدُ أَنْ يَرَى الولَدَ الذي طالَ انْتِظارُهُ.
فإِنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، طَلَبَ العَلامَةَ بَعْدَ البِشارَةِ لِيَعْرِفَ وَقْتَ حَمْلِ امْرَأَتِهِ بِالْوَلَدِ، وَوَقْتَ وِلادتِهِ. فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ عَنْ نَوْفٍ البِكاليِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً" قَالَ: أَعْطِنِي آيَة أَنَّكَ قَدِ اسْتَجَبْتَ لِي. فَقَالَ: "آيَتُكَ أَلَّا تُكَلَّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا"، قَالَ خَتَمَ عَلَى لِسَانِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ سَوِيٌّ لَيْسَ بِهِ مِنْ مَرَضٍ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ طَلَبَ الآيَةَ لِيَعْرِفَ أَنَّها بِشَارَةُ مَلَكٌ، وَأَنَّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى، لَا أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى خَلْقِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، فَلَعَلَّ الأَمْرَ أَشْكَلَ عَلَيْهِ بِأَنَّها بِشارَةُ مَلَكَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى في الآيَةِ: 39، مِنْ سُورةٍ آلِ عِمْرانَ: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى}، فَطَلَبَ العلامَةَ اسْتِعْلامًا مِنْهُ عَنْ بِشَارَةِ المَلائكةِ، وَأَنَّها مِنَ اللهِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قوْلُهُ: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} يُجيبُهُ رَبُّهُ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى، عَلامَتُكَ أَلَّا تُكَلِّم النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ، معَ كونكَ سليمًا معافًى لا عَرَضَ فِيكَ وَلَا مَرَضَ، بل أَنْتَ صحيحُ الجِسْمِ سويٌّ، وإِنَّما هِيَ حالَةٌ سَتَحْدُثُ لَكَ دُونَ إِرادَةٍ مِنْكَ، فَلَا تُكَلِّمُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، مَعَ سَلامَةِ جَوَارِحِكَ، ودُونَ عِلَّةٍ تَمْنَعُكَ مِنَ الكَلامِ، كَخَرَسٍ أَوْ غيْرِ ذَلِكَ.
فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: حُبِسَ لِسَانُهُ فَكَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ أَحَدًا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يُسَبِّحُ وَيَقْرَأُ التَّوْرَاةَ، فَإِذا أَرَادَ كَلَامَ النَّاسِ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ الطَبريُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا" قَالَ: اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "ثَلَاث لَيَالٍ سَوِيًّا" قَالَ: مِنْ غَيْرِ خَرَسٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا" قَالَ: صَحِيحًا لَا يَمْنَعُكَ الْكَلَامَ مَرَضٌ.
وهَكَذَا يَكونُ عَدَمُ قُدْرَتِكَ عَلَى الكَلامِ، عَلامَةً لَكَ عَلى حَمْلِ زَوْجِكَ بِوَلَدِكَ يَحْيَى.
قولُهُ تَعَالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى سيدِنا "زَكَرِيَّا" عَلَيْهِ السَّلامُ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. وَ "رَبِّ" مَنْصُوبٌ بالنِّداءِ مُضَافٌ إلى يَاءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ للتَّخفيفِ، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لانْشِغالِ المَحَلِّ بالحَرَكَةِ المُنَاسِبَةِ للياءِ، وَياءُ المتكلِّمِ المَحْذوفَةُ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وجُمْلَةُ النِّداءِ: "رَبِّ .." فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ، ويجوزُ أنْ تكونَ اعتراضيَّةِ للاسْتِرْحامِ، وجملةُ "اجْعَلْ" في محلِّ النَّصْبِ بالقولِ. و "اجْعَلْ" فِعْلُ دُعاءٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تَقديرُهُ (أَنتَ) يعودُ على اللهِ ـ جلَّ جلالُهُ العظيمُ. و "لِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بالمَفْعُولِ الثاني لِـ "اجْعَلْ"، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "آيَةً" مَفْعُولٌ بهِ أَوَّلُ لِـ "اجْعَلْ" منصوبٌ بِهِ. والجُمْلَةُ: في مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ" مقولُ القولِ، أَوْ تكونُ جَوَابَ النِّداءِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} قَالَ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى اللهِ ـ تَعَالَى. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. و "آيَتُكَ" مَرفوعٌ بالابتداءِ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "أَنْ" حَرْفٌ ناصِبٌ مَصْدَرِيٌّ. و "لَا" نَافِيَةٌ. و "تُكَلِّمَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَن"، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعودُ عَلى نبيِّ اللهِ زَكَرِيَّا عليهِ السَّلامُ. و "النَّاسَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. و "ثَلَاثَ" منصوبٌ على الظرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُكَلِّمَ"، وَهوَ مُضافٌ وَ "لَيَالٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "سَوِيًّا" منصوبٌ على الحالِ مِنَ الفاعِلِ في "تُكَلِّمَ"، أَي: حَالَةَ كَوْنِكَ سَليمًا بِلَا عِلَّةٍ وَلَا مَرَضٍ، أَوَ هو مَنْصُوبٌ عَلى كَوْنِهِ صِفَةً لِـ "ثَلاثَ" أيْ أَنَّها كامِلاتٍ، وَجُمْلَةُ "تُكَلِّمَ" صلةُ الموصولِ الحرفي لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، و "أَنْ" جملةُ "تُكَلِّمَ" فِي تأويلِ مصدَرٍ مَحَلُّهُ الرَّفْعُ خَبَرًا للمُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ" على أَنَّها مقولُ القولِ. أَوْ هيَ جُمْلَةٌ مُسْتأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيَانَيًّا لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.