قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا
(4)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}. هُوَ تَمْهِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الدُّعَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: "فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا". وَذَلِكَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنِ اضْطِرَارٍ لِسُؤَالِهِ الْوَلَدَ. لِعِلْمِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُجِيبُ دُعاءَ الْمُضْطَرِّ، فإِنَّ سُؤَالَهُ الوَلَدَ حَاجَةٌ بالنِسْبَةِ إليهِ لأَنَّهُ كَانَ قَدْ وَهَنَتْ عِظامُهُ، وَعَمَّ الشَّيْبُ رَأْسَهُ، فهُوَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ لِلِاسْتِعَانَةِ بِالْوَلَدِ عَلَى مُتَطَلَّباتِ الحَيَاةِ وحَمْلِ أَعْبائها. فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي" يَقُولُ: ضَعُفَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي" قَالَ: نُحُولُ الْعَظْمِ. وَقد أَسْنَدَ الوَهْنَ إِلَى العَظْمِ لِأَنَّهُ عِمَادُ البَدَنِ، ودِعَامةُ الجَسَدِ، فإذا أصابَه الهَشَاشَةُ وَالضَّعْفُ فقَدْ تَدَاعَى مَا وَرَاءَهُ، ووهَنَتْ قُوَّتُهُ؛ فَفَي الكَلامِ كِنَايَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبيهٍ مُضْمَرٍ فِي النَّفْسِ، أَوْ لأَنَّهُ أَشَدُّ الجِسْمِ صَلابَةٍ وَقَوَامًا، فَإِذا وَهَنَ وضَعُفَ كانَ غَيْرَهُ أَوْهَنَ، فَفِي الكَلامِ كِنَايَةٌ بِلَا تَشْبِيهٍ.
وقدْ أَفْرَدَ فلمْ يَقُلِ (العِظام) لِمَا في المُفْرَدِ مِنْ دلالَةٍ عَلَى الجِنْسِ وَقِيلَ: إِنَّهُ عَدَلَ عَنِ الجَمْعِ إِلَى الإِفْرَادِ طَلَبًا لِشُمُولِ الوَهْنِ العِظامَ فَرْدًا فَرْدًا، وَلَوْ جَمَعَ لَمْ يَتَعَيْنْ ذَلِكَ، لِصِحَّةِ وَهْنِ كُلِّ العِظامِ عِنْدَ حُصُولِ الوَهْنِ لِبَعْضٍ مِنْها. وَوُحِّدَ العَظْمُ لإِرادةِ الجِنْسِ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا الجِنْسَ الذي هوَ عَمُوْدُ البَدَنِ، وأَشَدُّ مَا فِيهِ وأَصْلَبَهُ، قَدْ أَصَابَهُ الوَهْنُ، وَلَوْ جُمِعَ عَلى "عِظامٍ" أَوْ "أَعْظُمٍ" لَكان قَصَدًا آخَرَ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَهِنْ مِنْهُ بَعْضُ عِظامِهِ وَلَكِنْ كُلُّهَا، وَقِيلَ: أُطْلِقَ المُفْرَدُ، والمُرادُ بِهِ الجَمْعُ، ومثلُهُ قَوْلُ الشاعِرِ عَلْقَمَةَ بْنِ عبدة:
بها جِيَفُ الحَسْرى فأَمَّا عِظامُها ........... فَبِيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ
أَيْ: وأَمَّا جُلودُها، وَمِثْلُهُ أَيْضًا قولُ أحدهم:
كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُمُ تَعِيشُوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُم زَمَنٌ خَمِيصُ
أَيْ: كلوا في نِصْفِ بُطُونِكُم.
وَأَيْضًا فَقَدْ سَأَلَ رَبَّهُ الولَدَ لِيَحْمِلَ إِرْثَ النُّبُوَّةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَهَذَا وَاضِحٌ مِنْ قوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}، ومَعْلُومٌ أَنَّ إِرْثَ آلِ يَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، هُوَ النُّبُوَّةُ، بِدَلِيلِ خِطَابِ اللهِ تَعَالَى لِوَلَدِهِ يَحْيَى: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ، وآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا}.
قوْلُهُ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} اسْتِرْحامٌ لِحَالِهِ لِأَنَّ الشَّيْبَ مَظْهَرٌ آخَرُ لِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ وَكِبَرِ سِنِّهِ وَنُحُولِ عَظْمِهِ. والأَصْلُ أَنْ يُقالَ: وَاشْتَعَلَ الشَّيْبُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ. شَبَّهَ عُمُومَ الشَّيْبِ لشَعْرِ رَأْسِهِ ـ أَوْ غَلَبَتَهُ عَلَيْهِ، بِاشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْفَحْمِ، فَشَبَّهَ شَعْرَهُ الأَسْوَدَ بِالفَحْمِ، وَبَريقَ شَعْرِهِ الشائبِ بِالنَّارِ حِيْنَ تَلتَهم الفَحْمَ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ تَمْثِيلِيٌّ مُرَكَّبٌ مِنْ أَبْدَعِ أَنْوَاعِ البَديعِ. وَإِسْنَادُ الِاشْتِعَالِ إِلَى الرَّأْسِ مِنَ المَجَازِ العَقْلِيِّ، لِأَنَّ الِاشْتِعَالَ مِنْ صِفَاتِ النَّارِ الَّتي شَبَّهَ الشَّيْبَ بِهَا، فَكَانَ الظَّاهِرُ إِسْنَادَهُ إِلَى الشَّيْبِ، وَلَكِنْ جِيءَ بِهِ تَمْيِيزًا للِاشْتِعَالِ، فَحَصَلَ بِذَلِكَ خُصُوصِيَّةُ الْمَجَازِ وَغَرَابَتُهُ، وَخُصُوصِيَّةُ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، مَعَ ما أَفَادَهُ تَنْكِيرُ الشَّيْبِ مِنَ تَعْظِيمٍ فَحَصَلَ منْ ذَلِكَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
قوْلُهُ: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أَيْ: وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلَّا الإِجَابَةَ لِدُعَائِي، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ خَائِبًا فِيمَا سَأَلْتُكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائكَ رَبِّ شَقِيًّا" قَالَ: قَدْ كُنْتَ تُعَوِّدُني الْإِجَابَةَ فِيمَا مَضَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائكَ رَبِّ شَقِيًّا" يَقُولُ: سَعِدْتُ بِدُعائكَ، وَإِنْ لَّمْ تُعْطِنِي.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ: ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "زَكَرِيَّا"، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ: فِي مَحَلِّ الجَرِّ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ "نَادَى"، وَ "رَبِّ" مُنَادَى مَنْصُوبٌ، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى مَا قَبْلِ ياءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ، وَذَلِكَ لانْشِغَالِ المَحَلِّ بالحَرَكَةِ المُناسِبَةِ لِيَاءِ المُتَكَلِّمِ، وَهُوَ مُضَافٌ، فَأَصْلُهُ "رَبِّي"، وَ (الياءُ) المَحْذوفَةُ للتَخْفِيفِ ضَمِيرٌ مُتَّصلٌ بهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ النِّداءِ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِقَالَ. وجُمْلَةُ "قَالَ رَبِّ" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ لِأَنَّها تَفْسيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى "نَادَى رَبَّهُ"، وَبَيَانٌ لَهُ، وَلِذَلِكَ تُرِكَ العاطِفُ بَيْنَهُمَا لِشِدَّةِ الوَصْلِ. وَ "إِنِّي" حَرْفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، وَياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. وَ "وَهَنَ" فِعْلٌّ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ. وَ "الْعَظْمُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. وَ "مِنِّي" مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنَ "الْعَظْمُ"، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجرِّ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ" وجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِالقَوْلِ لِـ "قَالَ" عَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ النِّداءِ. وَفِيهِ رَدٌّ عَلى مَنْ يَقولُ: إِنَّ الأَلِفَ وَاللّامَ تَكُونُ عِوَضًا مِنَ الضَّمِيرِ المُضافِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا هُنَا وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ: "وَهَنَ عَظْمِي". وَمِثْلُهُ فِي الدَّلالَةِ عَلَى ذَلِكَ مَا أَنْشَدوهُ للناَّبِغَةِ الذُّبيانيٍّ كَشَاهِدٍ عَلى مَا تَقدَّمَ:
رَحِيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رَفْيقَةٌ ......... بجَسِّ النَّدامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ
قَوْلُهُ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} الوَاو: للعَطْفِ، وَ "اشْتَعَلَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ. وَ "الرَّأْسُ" فَاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، و "شَيْبًا" تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الفاعِلِ مَنْصُوبٌ بِـ "اشْتَعَلَ" وَالتَقْديرُ: وَاشْتَعَلَ شَيْبُ الرَّأْسِ، وهو المشهورُ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ مَعْنَى "اشْتَعَلَ" لِأَنَّ مَعْنَاهُ شَابَ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي" عَلَى كَوْنِها خَبَرَ "إِنَّ".
قوْلُهُ: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} الواوُ: عَاطِفَةٌ، وَ "لَمْ" حَرْفُ جَزْمٍ ونفْيٍ وقَلْبٍ. و "أَكُنْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ نَاقِصٌ مَجْزُومٌ بـ "لم"، حُذِفَتِ واوُهُ لالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، واسُمُها ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيها وُجوبًا تقديرُهُ (أَنَا) يَعُودُ عَلَى "زَكَرِيَّا". وَ "بِدُعَائِكَ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "شَقِيًّا"، و "دُعائكَ" الأظهَرُ فيهِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ، وقيلَ: بِأَنَّهُ مُضافٌ لِفَاعِلِهِ، أَيْ: لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ لِي إِلَى الإِيمانِ شَقِيًّا، وهو مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطَابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَ "رَبِّ" مُنَادَى مَنْصُوبٌ مضافٌ تقدَّمَ إعرابُهُ. وَ "شَقِيًّا" خَبَرُ "يَكُنْ" مَنْصُوبٌ بِهَا. وَجُمْلَةُ "لم أَكُنْ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي" عَلَى كَوْنِهَا خَبَرَ "إنَّ".
قَرَأَ العامَّةُ: {وَهَنَ} بِفَتْحِ الهَاءِ. وَقَرَأَ الأَعْمَشُ "وَهِنَ" بِكَسْرِها. وَقُرِئَ "وَهُنَ" بِضَمِّها، وَهَذِهِ لُغَاتٌ فيها.