إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بَعَدَ أَنْ كانَ الحديثِ فيما مَضَى مِنْ آيةٍ عَنِ الكافرينَ وما يَنْتَظِرُهم في الآخِرَةِ مِنَ عَذَابٍ، انْتَقَلَ الذِّكْرُ الحكيمُ ـ كعادَتِهِ، للحَديثِ عَنْ المُؤْمِنِينَ ومَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ ثوابٍ، جرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ الْبِشَارَةِ بَعْدَ الْنِّذَارةِ.
وَنُلاحِظُ فِي القرآنِ الكريمِ أَنَّ الإيمانَ باللهِ تعالى يَأَتِي دائمًا مُقْتَرِنًا بالعملِ الصالِحِ، لأَنَّ الإيمانَ اعتقادَ في القَلْبِ لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا اللهُ، ولا بُدَّ مِنْ تَرْجَمَتِهِ إِلَى أَعْمَالٍ تَدَلُّ عَلَيْهِ، لقولِهِ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فيما أَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي تَاريخِهِ، وَأَبو نُعَيْمٍ الأَصْبَهانِيُّ في "الأَرَبَعونَ عَلى مَذْهَبِ المُتَحَقِّقِينَ مِنَ الصَّوفِيَّةِ": (ص: 85)، بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْفِعْلُ، وَالْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمٌ بِالْقَلْبِ وَهُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَعِلْمٌ بِاللِّسَانِ فَهُوَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ)). وَأَخَرَجَهُ أَيضًا ابْنُ أَبي شَيْبَةَ في مُصَنَّفِهِ، وَالبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، مَوْقوفًا.
وَيَأْتي فِي مُقَدَّمَةِ هذِهِ الأَعْمَالِ النُّطْقُ بالشَّهادَةِ، ثمَّ إقامةُ الصَّلاةِ وإِيتاءُ الزَّكَاةِ وصومُ رمضانَ، والحجُّ، وغيرُ ذلكَ مِنْ أَعمالِ البرِّ التي نصَّ عليها الدينُ الحَنِيفُ وذَكَرَها الحديثُ الشَّريفُ، فيما رواهُ الأَئِمَّةُ الأَعلامُ عنْ سيدِ الأَنامِ ورسولِ السَّلامِ والإِسلامِ محمدٍ ـ عَليْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، مِنْ حديثِ أَمِيرِ المُؤْمِنينَ عُمَرَ ابْنِ الخطَّابِ ـ رَضيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ ـ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا))، قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ، قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ. قَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ)). قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ. قَالَ: ((مَا الْمَسْؤولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ)). قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ: ((أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ))، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: ((يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ؟)). قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ)). أَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ الأَعْلامُ ـ رحمهمُ اللهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُمْ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ: (1/51، برقم: 367)، وَمُسْلِمُ في صحيحِهِ: (1/36، برقم:
، والنَّصُّ لَهُ، وأَبو دَاوُدَ في سُنَنِهِ: (4/223، برقم: 4695)، وَالتِرْمِذِي في جامِعِهِ: (5/6، برقم: 2610)، وَقالَ: حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، والنَّسَائِيُّ في سُنَنِهِ "الكُبْرَى": (6/528، بِرقم: 11721)، وَابْنُ مَاجَهْ في سُنَنِهِ: (1/24، برقم: 63)، وَابْنُ خُزَيْمَةَ في صحيحِهِ: (4/127، برقم: 2504)، وَابْنُ حِبَّانَ في صحيحِهِ: (1/389، برقم: 168)، عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما. وأَخْرَجَهُ أَيْضًا: الدَّارَقُطْنِيُّ: (2/282)، وَالبَيْهَقِيُّ: (10/203، برقم: 20660).
وَقد جاءَتِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكَّدَةً بِـ "إنَّ" لِلِاهْتِمَامِ بِهَا، لِأَنَّهَا جَاءَتْ فِي مُقَابَلَةِ جُمْلَةِ {إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا} مِنَ الآيةِ السابِقَةِ، والتي هيَ أَيْضًا مُؤكَّدةٌ بِـ "إنَّ"، وَذِلِكَ كَيْ لَا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ مُهْتَمٍّ بِتَأْكِيدِهِ، مَعَ مَا فِي التَّأْكِيدَيْنِ مِنْ تَقْوِيَةِ الْإِنْذَارِ وَتَقْوِيَةِ الْبِشَارَةِ.
وَجَعْلُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الاسْمَ الْمَوْصُولَ بِصِلَةِ الْإِيمَانِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ "آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحاتِ" لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ أَعْمَالِهِمْ. فَلِذَلِكَ خُولِفَ نَظْمُ الْجُمْلَةِ الَّتِي تُقَابِلُهَا فَلَمْ يَقُلْ: جَزَاؤُهُمُ الْجَنَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا الْأُسْلُوبِ فِي الْمُخَالِفِ بَيْنَ وَصْفِ الْجَزَاءَيْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الآيةِ: 29، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُباركةِ: {إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها} ثُمَّ قَال بعدَها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} الآيَةِ: 30.
قولُهُ: {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} جِيءَ بِـ "كانَتْ" للدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمُ الْجَنَّاتِ أَمْرٌ مُهَيَّأٌ مِنْ قَبْلُ مُسْتَقِرٌّ لَهُمْ. وَجِيءَ بِلَامِ الِاسْتِحْقَاقِ في "لهم" تَكْرِيمًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ نَالُوا الْجَنَّةَ بِاسْتِحْقَاقِ إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 72، مِنْ سُورةِ الزُّخْرُفِ: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لإِبرازِ فضْلِ العملِ الصَّالِحِ والترغيبِ فيهِ. وَجَمْعُ الْجَنَّاتِ إِيمَاءً إِلَى سَعَةِ نَعِيمِهِمْ، وَأَنَّهَا جنان كَثِيرَةٌ وليسَتْ واحدَةً، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشَّريفِ: ((إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ))، فَقَدَ خَرَّجَ البُخَارِيُّ فِي كَتابِ المَغَازي مِنْ صِحِيحِهِ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُولُ: "أُصِيبَ حارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ غَرْبُ سَهْمٍ، وَهُوَ غُلامٌ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُ فِي الجَنَّةِ أَصْبِرْ، وَأَحْتَسِبْ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى، تَرَى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: ((وَيْحَكِ، أَوَ هُبِلْتِ، أَوَ جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هَيَ؛ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأَعْلَى)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (3/210، برقم: 13232)، و (3/260، برقم: 13777)، و (3/283، برقم: 14060). والبُخَارِي في صحيحِهِ: (4/24، برقم: 2809) وَالتِّرْمِذِيُّ: (برقم: 3174).
وَعَرَّفَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الفرْدوسَ فَقَالَ: ((الفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الجَنَّةِ، وَأَوْسَطُها، وَأَفْضَلُها، وَأَحْسَنُها، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ، فإِذا سَأَلْتُمُ اللهَ الجَنَّةَ، فَاسْأَلوهُ الفِرْدَوْسَ)). أَخَرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ "جامِعُ البَيَانِ": (16/37)، بِسَنَدِهِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، والبَغَوِيُّ فِي تَفْسيرِهِ "مَعَالِمُ التَنْزيلِ": (5/211)، وابْنُ كَثيرٍ فِي "تَفْسيرِهِ": (3/120).
وأَخْرَجَ نَحْوَهُ البُخَارِيُّ فِي كِتَابِ: الجِهَادِ، بابُ: دَرَجات المُجاهِدينَ: (6/11)، وَمُسْلِمٌ في كِتَابِ: الإيمان، باب: إِثْباتُ رُؤْيَةِ المُؤْمِنينَ: (1/163)، وَنَصُّهُ عندَ الشَّيْخَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: ((إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ الْجَنَّةَ، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ)). والتِرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ: صِفَةُ الجَنَّةِ، بابُ: مَا جَاءَ فِي صِفَةِ دَرَجاتِ الجَنَّةِ: (4/673)، وَابْنُ مَاجَهْ في المُقَدِّمَةِ بَاب: فِيما أَنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ: (1/66)، وَأَخْرجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ فِي: (2/335) مِنْ مُسْنَدِهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سَلُوا اللهَ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهَا سُرَّةُ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ أَهْلَ الفِرْدَوْسِ يَسْمَعُونَ أَطِيطَ الْعَرْشِ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُ: (8/246، برقم: 7966)، والحاكِمُ في مُسْتدْرَكِهِ: (2/402، برقم: 3402)، وأَخْرَجَهُ أَيْضًا الرُّويانيُّ: (2/317، برقم: 1278).
وَأَخْرَجَ الأئمَّةُ: أَحْمدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الْبَعْثُ والنُّشورُ)، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، الْفِرْدَوْسُ الْأَعْلَى دَرَجَةٌ، وَمِنْ فَوْقِهِ يَكُونُ الْعَرْشُ، وَمِنْهَا تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الْأَرْبَعَةُ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْس)). مُسْنَدُ أَحْمَد: (5/316)، وسُنَنُ التِرْمِذِيِّ بِرَقَم: (2531). و "البُعْثُ والنُّشُورُ" للبَيْهَقِيِّ: (ص: 162) والنَّصُّ لَهُ. و "كتابُ التَّوْحيدِ" لابْنِ خُزَيْمَةَ: (1/247).
وَأَخْرَجَ الأَئِمَّةُ: أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "الْبَعْثُ والنُّشورُ" عَنْ مُعَاذَ بْنِ جَبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((إِنَّ الْجَنَّةَ مِئَةَ دَرَجَةٍ، كُلٌّ مِنْهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَعْلاهَا الفِرْدَوْسُ، وَعَلَيْهَا يَكونُ الْعَرْشُ، وَهِيَ أَوْسَطُ شَيْءٍ فِي الْجَنَّةِ، وَمِنْهَا تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، فَإِذا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسُ)).
وأَخرجَ الحاكمُ أَبو عَبْدِ اللهِ النَيْسَابورِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((الجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ، بيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ، والفِرْدُوْسُ مِنْ أَعْلاها دَرَجَةً، وَمِنْهَا تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ، فإِذا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلوهُ الفِرْدَوْسَ)). المُسْتَدْرَكُ للحاكمِ بِتَعْليقِ الإمامِ الذَّهَبِيِّ: (1/111)، وَقَالَ هَذَا حَديثُ صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَلَهُ شاهِدٌ صَحِيحٌ بِمِثْلَ هَذَا الإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وأَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُما، تَعْلِيقُ الإمامِ الذَّهَبِيِّ في التَلْخِيصِ: عَلَى شَرْطِهِمَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ هِيَ رَبْوةُ الْجَنَّةِ الْعُلْيا الَّتِي هِيَ أَوْسَطُها وَأَحْسَنُها)).
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُ: إِذا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةَ)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قالَ: ((الفَرْدَوْسُ أَعلَى دَرَجَة فِي الْجَنَّةِ، وَفِيهَا يَكونُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهَا تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الْأَرْبَعَةُ، وَجَنَّةُ عَدْنٍ قَصَبَةُ الْجَنَّةِ، وفِيهَا مَقْصُورَةُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهَا يُسْمَعُ أَطِيطُ الْعَرْشِ، فَإِذا سَأَلْتُم اللهَ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ)). وأَطيطُ العَرشِ صوتُهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ أَبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الفِرْدَوْسُ مَقْصُورَةُ الرَّحْمَنِ، فِيهَا خِيَارُ الْأَنْهَارِ وَالأَثْمَارِ)).
وَأَخْرَجَ النَّجادُ فِي جُزْءِ التَزَاحُمِ عَنْ أَبي عُبَيْدَةَ، عامرِ بِنِ الْجَرَّاحِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالفِرْدَوْسُ أَعلَى الْجَنَّةِ، فَإِذا سَأَلْتُمُ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فَسَلوهُ الفِرْدَوْسَ)).
وَ "الفِرْدَوْس" في اللَّغَةِ: البُسْتَانُ الذي يَجْمَعُ كُلَّ ما يكُونُ في البَسَاتِينِ، والوَادِي الخَصِيبُ، وَالأَوْدِيَةُ الَّتي تُنْبِتُ ضُرُوبًا مِنَ النَّباتِ، أَو المُعَرَّشُ مِنْها كَالعِنَبِ، والجُمَعُ فَرَادِيسٌ.
وَ "نُزُلًا" تَقَدَّمَ القَوْلُ فِي مَعْنَاهَا مُفصَّلًا غَيْرَ بَعيدٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الآيَةِ: 102، السَّابِقَةِ مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ، مِنْ كَوْنِهِ اسْمَ مَكَانِ نُزُولِ الضَّيْفِ وَمَا يُعَدُّ لَهُ فيهِ مِنْ أَسْبابِ الرَّاحَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إِنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَوْكِيدِ. و "الَّذِينَ" اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ عَلى الفَتْحِ في محلِّ النَّصْبِ، اسْمُها. و "آمَنُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ، والأَلِفُ للتفريقِ والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. و "وَعَمِلُوا" الواوُ "حَرْفُ عَطْفٍ، و "عَمِلُوا" مِثْلُ "آمَنُوا" معطوفٌ عَلَيْهِ. و "الصَّالِحَاتِ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، وعَلامةُ نَصْبِهِ الكَسْرةُ نيابةً عَنِ الفَتْحَةِ لأَنَّهُ جَمْعُ المُؤْنَّثِ السَّالمُ. والجُمْلةُ الفعليَّةُ هذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "آمَنُوا" عَلى كَوْنِها صِلَةَ الاسْمِ المَوْصُولِ فَليْس لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} كَانَتْ: فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، والتاءُ السَّاكِنَةُ لِتَأْنِيثِ الفاعِلِ. و "لَهُمْ" اللَّامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنَ الخَبَرِ "نُزُلًا"، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والمِيمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "جَنَّاتُ" اسْمُ "كانَ" مرفوعٌ، وَهُوَ مُضافٌ، و "الْفِرْدَوْسِ" مَجْرورٌ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. وَ "نُزُلًا" خَبَرُ "كان" مَنْصُوبٌ بِهَا، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ سَبَبُ نَصْبِهِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ "جَنَّاتُ"، أَيْ: ذَوَاتُ نُزُلٍ، وَالخَبَرُ هوَ الجَارُّ. وَجُمْلَةُ "كانَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ" وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.