وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا
(58)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} الغَفُورُ: للمُبَالَغَةِ في الْمَغْفِرَةِ، فَهُوَ ـ سُبْحانَه، كَثيرُ الغُفْرانِ عظيمُ الامْتِنَانِ، يَغْفِرُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ جَميعَ الذُّنُوبِ والعِصيانِ إلَّا الشِرْكَ، قالَ تَعَالى في الآيةِ: 48، مِنْ سُورَةِ النِّساءِ: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، فإِنَّ مَغْفِرَتَهُ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ بِمَشِيئَتِهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، إِلَّا الشِّرْكَ، لأَنَّ المُشْرِكُ مُحرَّمٌ عَلَيْهِ دُخُولُ الجَنَّةَ، وَلِذَلِكَ فإِنَّ مَغْفِرَةَ اللهِ تَعَالَى لَا تَشْمَلُهُ. قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ المَائِدَةِ: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} الآيةَ: 72.
وَ "ذُو الرَّحْمَةِ" صاحِبُهَا ومَصْدَرُها ومنبعُها، وكلُّ رحمةٍ في الكونِ مستمدَّةٌ مِنْ رحمتِهِ ـ سُبْحانَهُ، فرَحْمَتُهُ تَشْمَلُ جَميعَ مَخْلوقَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، كمَا جاء في الحديثِ الشّريف مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ فِي مِئَةِ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)) رَوَاهُ الشيخانِ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ مِنْهَا: ((إِنَّ اللهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِئَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ)). قالَ الْعُلَمَاءِ فِي شَرْحِ هذا الْحَدِيثِ بأَنَّ الرَّحْمَةَ رَحْمَتَانِ: صِفَةُ ذَاتٍ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ لَا تَتَعَدَّدُ. وَصِفَةُ فِعْلٍ، وَهِيَ الَّتِي جُعِلَتْ مِئَةَ قِسْمٍ. وَنِسْبَةُ رَحْمَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَى رَحْمَتِهِ تَعَالَى إنَّما هيَ لِبَيَانِ تَعْظِيمِ قَدْرِهَا.
وَقدْ بَيَّنَ فِي اللهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ الكريمِ أَنَّ رَحْمَتَهُ وَاسِعَةٌ، وَأَنَّهُ سَيَكْتُبُهَا لِلْمُتَّقِينَ، فقَالَ ي الآيَةِ: 156، مِنْ سُورَةِ الأَعْرافِ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}.
وَهوَ ـ سُبْحانَهُ، مَعَ سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَعظيمِ مَغْفِرَتِهِ، شَدِيدُ الْعِقَابِ، قَالَ ـ تَعَالَى، في الآيَةِ: 6، مِنْ سُورةِ الرَّعْدِ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}، وَقَالَ مِنْ سُورةِ الحِجْرِ: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} الآيَتَانِ: (49 و 50)، وَقالَ مِنْ سُورَةِ غافِر: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} الآيَةَ: 3، إِلَى غَيْرِها مِنَ الْآيَاتِ الكريماتِ.
قوْلُهُ: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} أَيْ: لَوْ أَنَّ اللهَ تَعَالى آخَذَ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي والذُّنُوبِ، وَحاسَبَهُمْ مُبَاشَرَةً عَلَى ارْتِكابِ الآثامِ واقْتِرافِ العُيُوبِ، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ لِشَنَاعَةِ مَا يَرْتَكِبُونَ، وفَظاعَةِ ما يقترونَ، وَلَكِنَّهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ، كريمٌ حَلِيمٌ، لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ، إِفْسَاحًا في المجالِ للإنابةِ والتوبةِ، فَهُوَ يُمْهِلُ عبدَهُ وَلَكنَّهُ لا يُهْمِلُهُ.
وَنَظيرُ هَذِهِ الجملةِ الكريمةِ قَولُهُ ـ تَعَالى، في الآية: 61، مِنْ سُورةِ النَّحْلِ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}، وَقَولُهُ في الآيةِ: 45، مِنْ سُورَةِ فاطِر: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}. واللهُ أعْلَمُ.
قولُهُ: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} وهوَ تَعَالَى إِذْ أَجَّلَ وأَمْهَلَ، فإِنَّهُ حَدَّدَ لِعِبادِهِ أَجَلًا وضَرَبَ لهم مَوْعِدًا لحِسابِ مَنْ أَصَرَّ على ذَنْبِهِ منهم، ولنْ يستطيعَ أَحَدٌ الفِرَارِ منهُ ولا الإفلاتَ مِنْ قبضَتِهِ، ولنْ يَجِدَ رُكنًا يلجَأُ إليهِ، ولا أحَدً يخلِّصُهُ منْ عَذابِهِ، فَإنَّهُ ـ عَزَّ وجَلَّ، لَا شَفيعَ عِنْدَهُ إلَّا بإذْنِهِ.
والمَوْئِلُ: المَرْجِعُ، وهو مِنْ وَأَلَ يَئِلُ، إذا: رَجَعَ، وَهُوَ مِنَ التَأْويلِ. وَالمَوْئِلُ: المَنْجَى، ووَأَلَتْ نَفْسُهُ: نَجَتْ. ومنهُ قولُ الأَعْشَى:
وَقَدْ أُخَالِسُ رَبَّ البَيْتِ غَفْلَتَهُ .............. وَقَدْ يُحاذِرُ مِنِّي ثُمَّ مَا يَئِلُ
أَيْ: مَا يَنْجُو. وَالمَوْئلُ أَيْضًا: المَلْجَأُ. ووَأَلَ فُلانٌ إِلَى فُلانٌ، يَئِلُ وأَلًا، وَوُؤُوْلًا: لَجَأَ إِلَيْهِ وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} الواوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، و "رَبُّكَ" مَرْوعٌ بالابْتِداءِ، مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "الْغَفُورُ" خَبَرُ الأَوَّلُ مَرْفوعٌ. و "ذُو" خَبَرُهُ الثاني مَرْفوعٌ، وعلامةُ رَفعِهِ الواوُ لأَنَّهُ مِنَ الأَسْماءِ الخَمْسَةِ، وَهوَ مُضافٌ، وَ "الرَّحْمَةِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا} لَوْ: حَرْفُ شَرْطٍ غَيْرُ جَازِمٍ. و "يُؤاخِذُهُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى، وَالهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلَّ النَّصْبِ عَلى المَفْعُوليَّةِ، والمِيمُ لِتَذْكيرِ الجَمْعِ. والجُمْلَةُ فِعْلُ شَرْطٍ لِـ "لَوْ" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "بِمَا" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُؤاخِذُهُمْ"، و "ما" مَوْصُولَةٌ ، أَوْ نكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "كَسَبُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِليَّةَ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ، والجملةُ صِلَةٌ لِـ "ما" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في الجَرِّ، والعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ والتقديرُ: بِمَا كَسَبُوهُ.
قوْلُهُ: {لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} اللامُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "لَوْ" الشَّرْطِيَّةِ غَيْرِ الجازِمَةِ، وَ "عَجَّلَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنِيٌّ على الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى. و "لَهُمُ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "عَجَّلَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِ، والميمُ للجَمْعِ المُذكَّرِ. و "الْعَذابَ" مَفْعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وَالجُمْلَةُ جَوَابُ "لَوْ" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ "لَوْ" الشَّرْطِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، أَوْ هي فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا ثَالِثًا، لِـ "رَبُّكَ".
قوْلُهُ: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ} بَلْ: حَرْفُ إِضْرابٍ وابْتِداءٍ. و "لَهُمُ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بخبرٍ مُقدَّمٍ، وَالهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِ، والمِيمُ للجَمْعِ المُذكَّرِ. و "مَوْعِدٌ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، وَيَجُوزُ فِي "المَوْعِدِ" أَنْ يَكونَ مَصْدرًا أَوْ زَمانًا أَوْ مَكانًا، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} لَنْ: حَرْفٌ نَاصِبٌ، وَ "يَجِدُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مُنْصُوبٌ بِـ "لَنْ" وَعَلامَةُ نَصْبِهِ حَذْفُ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِليَّةَ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بـ "يَجِدُوا" لأَنَّهُ مُتَعَدٍّ لِوَاحدٍ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمحذوفِ حالٍ مِنْ "مَوْئِلًا"، وَ "دُونِهِ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ. و "مَوْئِلًا" منصوبٌ على المفعوليَّةِ ، وَجُمْلَةُ "لَنْ يَجِدُوا" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِنْ الضَميرِ المجرورِ فِي "لَهُمُ" أَوْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَةً لِـ "مَوْعِدٌ".
قرأ العامَّةُ: {مَوْئِلًا} وهي أَقْيَسُ تَخْفيفًا، وَقَرَأَ أَبو جَعْفَرٍ "مَوِلًا" بِوَاوٍ مَكْسُورَةٍ فَقَط، وَقَرَأَ الزُهْريُّ "مَوِّلًا" بِوَاوٍ مُشَدَّدَةٍ فَقَط.