فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} الْفَاءُ هُنَا لِلتَّفْرِيعِ وَهي الْفَصِيحَةُ، أَفْصَحَتْ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ فَسَارَا حَتَّى بَلَغَا مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، حَيْثُ مَكانُ اللِّقاءِ المَوْعُودِ بَيْنَ سَيِّدِنا مُوسَى والخَضِرِ ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما: (يُريدُ مُلْتَقَى العَذْبِ وَالمَالِحِ). وَهوَ: (مُلْتَقَى بَحْرِ الرُّومِ وَبَحْرِ فَارِس)، وَقَالَهُ قَتادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، جَامِعُ البَيَانِ للطَّبَريِّ: (15/271).
وَقِيلَ: هو مَجْمَعٌ فِي وَسَطِهِمَا، وعَلَيْهِ فَيَكونُ كَالتَّفْصِيلِ لِـ "مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ"، وَهَذَا يُنَاسِبُ تَفْسيرَ المَجْمَعِ بـ "طَنْجَةَ" أَوْ إِفْريقِيَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في تَفْسيرِ الآيَةِ التي قَبْلَها.
وَقِيلَ: "بَيْنَ" هُنَا اسْمٌ بِمَعْنَى الوَصْلِ. وَتُعُقِّبَ هَذَا بِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ قَوْلُكَ: مَجْمَعَ وَصْلِهِمَا، وَجُوِّزَ أَنْ يَكونَ بِمَعْنَى الافْتِراقِ، أَيْ: مَوْضِعُ اجْتِمَاعِ افْتِراقِ البَحْرَيْنِ، أَيْ: البَحْرَيْنِ المُفْتَرِقَيْنِ، والظّاهِرُ أَنَّ ضَميرَ التَثْنِيَةِ عَلَى الاحْتِمَالَيْنِ عائدٌ للبَحْرَيْنِ. وعَلَى سائرِ الاحْتِمالاتِ فـ "مَجْمَعَ" هو اسْمُ مَكَانٍ.
قوْلُهُ: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} أَيْ: الذي جُعِلَ فُقْدانُهُما لَهُ أَمَارَةً لِوِجْدانِ الخَضِرِ ـ عليْهِ السَّلامُ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي رِوَايَةِ عَطاء: (نَسِيَ الفَتَى أَنْ يَذْكُرَ قِصَّة الحُوتِ لِمُوسَى). وَالْحُوتُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ سيِّدَنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِاسْتِصْحَابِهِ مَعَهُ لِيَكُونَ لَهُ عَلَامَةً عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ الْخَضِرُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سِيَاقِ الحَدِيث. فقَدْ رَوَى الطَبَرِيُّ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُم، قالَ: (كانَ فِيمَا تَزَوَّدَا حُوتًا مَالِحًا، في زَنْبيلٍ، وَكانَا يُصِيبانِ مِنْهُ عِنْدَ العَشَاءِ والغَدَاءِ، فَلَمَّا انْتَهَيا إِلَى الصَّخْرَةِ عَلى سَاحِلِ البَحْرِ، وَضَعَ فَتَاهُ المِكْتَلَ، فَأَصابَ الحُوتَ نَدَى البَحْرِ، فَتَحَرَّكَ في المِكْتَلِ، فَقَلَبَ المِكْتَلَ، وانْسَرَبِ فِي البَحْرِ)، جَامِعُ البَيَانِ لابْنِ جريرٍ الطَّبَرِيِّ: (15/278).
قولُهُ: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} الاتِّخَاذُ: الْجَعْلُ. وَالسَّرَبُ: النَّفَقُ. جاءَ في حَديثِ أُبَيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: (جَعَلَ لَا يُصَيبُ الحُوتُ شَيْئًا مِنَ المَاءِ إِلَّا جَمَدَ، حَتَّى اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبًا شِبْهَ النَّقْبِ". وقالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: (جَعَلَ لَا يَسْلُكُ طَريقًا إِلَّا صَارَ الماءُ جامِدًا). جامِعُ البَيَانِ للطَّبَريَّ" (15/274)، وَقَالَ الرَّبيعُ بْنُ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: (اِنْجابَ الماءُ عَلى مَسْلَكِ الحُوتِ فَصَارَتْ كُوَّةً لَمْ تَلْتَئِمْ).
وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْحُوتَ بَقِيَ مَوْضِعُ سُلُوكِهِ فَارِغًا، وَأَنَّ مُوسَى ـ عَليْهِ السَّلامُ، مَشَى عَلَى السَّرْبِ مُتَّبِعًا الْحُوتَ، حَتَّى أَفْضَى بِهِ السَّرْبُ إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ، حيثُ وَجَدَ الْخَضِرَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فِيهَا. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالى: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} الفاءُ: للعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ، والتَقديرُ: فَذَهَبَا يِمْشِيَانِ، فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ البَحْرينِ، وتقدَّمَ في مبحثِ التفسيرِ جوازُ أَنْ تَكونَ الفَصِيحَةُ. و "لَمَّا" حَرْفُ شَرْطٍ غَيْرُ جازِمٍ. و "بَلَغا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وأَلِفُ التَثْنيةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والجُمْلَةُ فِعْلُ شَرْطِ "لَمَّا" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَ "مَجْمَعَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وَهوَ مُضافٌ، و "بَيْنِهِما" ظَرْفٌ أُضِيفَ إِلَيْهِ عَلَى الاتِّساعِ، أَوْ هو بِمَعْنَى الوَصْلِ؛ أَيْ: مَجْمَعَ وَصْلِهِمَا، وهوَ مُضافٌ أَيضًا، و "هما" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةَ إِلَيْهِ، وَهذا الضَمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْبَحْرِينِ، أَيْ: مَحَلًّا يَجْمَعُ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ. وَإِضَافَةُ "مَجْمَعَ" إِلَيْهِ هوَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ ـ كَمَا تقدَّمَ، فَإِنَّ "بَيْنَ" اسْمٌ لِمَكَانٍ، مُتَوَسِّطٍ شَيْئَيْنِ، وَشَأْنُهُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْفِعْلِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِمُجَرَّدِ مَكَانٍ مُتَوَسِّطٍ، إِمَّا بِالْإِضَافَةِ كَمَا هو هُنَا، وَكما هو في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ المائدةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ} الْآيةَ: 106، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ أَوِ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَى مَعْمُولِهِ، أَوْ بِدُونِ إِضَافَةٍ تَوَسُّعًا كَما هو في قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَام: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} الآيَةَ: 94، وذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ "بَيْنُكُمْ" بِالرَّفْعِ.
قولُهُ: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} نَسِيَا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفتْحِ، وَأَلِفُ التَثْنيةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، وَ "حُوتَهُما" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وهو مُضافٌ، و "هُما" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِ، والجُمْلَةُ جَوَاب "لَمَّا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَجُمْلَةُ "لَمَّا" مَعْطُوفَةٌ عَلَى تِلْكَ الجُمْلَةِ المَحْذُوفَةِ.
قوْلُهُ: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} الفَاءُ: عَاطِفَةٌ، و "اتَّخَذَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى الحُوتِ. و "سَبِيلَهُ" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ مَنْصُوبٌ مُضافٌ، والهَاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ. وَ "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اتَّخَذَ"، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ المَفْعُولِ الأَوَّلِ، أَوِ الثاني. والهاءُ في "سَبِيلَهِ" تَعُودُ عَلَى الحُوْت. وَكَذَا المَرْفُوعُ فِي "اتَّخَذَ". "سَرَبًا" مَفْعُولٌ ثانٍ لـ "اتَّخذ". وَ "البَحْرِ" مَجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "سَرَبًا" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ مَنْصُوبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ "سَبِيلَهُ" مُرَادًا بِالْحَالِ التَّشْبِيهُ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ الْمِسْكُ مِنْهُمَا ........ نَسِيمَ الصِّبَا جَاءَتْ بِرِيَّا الْقَرَنْفُلِ
وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "نَسِيَا" عَلَى كَوْنِها جَوَابًا لِـ "لَمَّا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.