هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ للهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ للهِ الْحَقِّ} تَحْقِيقٌ لِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى: {وَيَقولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} الْآية: 42، وَقوْلِهِ: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ} الْآيةَ: 43، وَقوْلِهِ: {وَمَا كانَ مُنْتَصِرًا} الْآيَةَ: 43. بِقَصْرِ الْوَلَايَةِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الوَلايَةِ نَصْرُ مَنْ تولَاهُ مولاهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا رَأَى الْكَافِرُ مَا نَزَلَ بِهِ جَرَّاءَ كُفْرِهِ قالَ: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}، فقدْ عَلِمَ أَنَّ الْآلِهَةَ الْأُخْرَى لَنْ تُغْنِيَ ولَايَتُهُمْ عَنْهُ شَيْئًا، كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمَ أَسْلَمَ: (لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا) وهذا جُزْءٌ مِنْ حَديثٍ طَويلٍ أَخْرَجَهُ الطَبَرانيُّ في الكَبيرِ، وأَبُو نُعَيْمٍ فِي (مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ) وغيرُهما مِنْ حديثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عبَّاسٍ عَنْ أَبيهِ العبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُما. وَالإشَارَةُ بِـ "هُنَالِكَ" إِلَى الدَّارِ الآخِرَةِ، أَيْ: أَنَّ الوَلايَةَ في تِلْكَ الدَّارِ هِيَ للهِ الحَقِّ، وهوَ مُناسِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بعدَ ذَلِكَ: "هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا" ونَظَيرُهُ قَوْلُهُ مِنْ سُورةِ غَافِر: {لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} الآيةَ: 16. والظَّاهِرُ أَنَّ الوَقْفَ عَلَى {مُنْتَصِرًا} مِنَ الآيةِ التي قبلَها، وأَنَّ "هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ للهِ الْحَقِّ" ابْتِداءُ كلامٍ، فـ "الوَلايَةُ" إِذًا مُبْتَدَأٌ وَ "للهِ" خَبَرُهُ، والظَّرْفُ مَعْمُولٌ الاسْتِقْرارِ، والجُمْلَةُ مُفِيدَةٌ للحَصْرِ لاقْتِرَانِ الخَبَرِ بِلَامِ الاخْتِصَاصِ، فَإنَّ لامَ الجَرِّ مِنْ قولِهِ "لله" هِيَ للاختصاصَ كَمَا هيَ في قولِهِ مِنْ سُورةِ الفاتِحةِ: {الحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}، وقدْ قُرِّرَ ذِلِكَ في مكانِهِ هُنَاكَ، ولِتَعْريفِ المُسْنَدِ إِلَيْهِ وأَيْضًا، وجوَّزَ العُكْبُريُّ أَبو البَقَاءِ: أَنْ يَكونَ اسْمُ الإشارةِ "هُنَالِكَ" خَبَرَ "الوَلايَةُ" أَوْ "الوَلايَةُ" مَرْفُوعٌ بِهِ، وَ "للهِ" مُتَعَلِّقٌ بِالظَّرْفِ، أَوْ بالعامِلِ فِيهِ أَوْ بـ "الوَلايَةِ"، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حالًا مِنْهَا. وقالَ بَعْضُهُم: إِنَّ الظَّرْفَ مُتَعَلِّقٌ بـ {مُنْتَصِرًا}، والإِشارَةُ إِلى الدَّارِ الآخِرَةِ، والمُرادُ الإِخْبَارُ بِنَفْيِ أَنْ يَنْتَصِرَ فِي الآخِرَةِ بَعْدَ نَفْيِ أَنْ تَكونَ لَهُ فِئَةٌ تَنْصُرُهُ فِي الدُّنْيا. وجَعَلَهُ أَبُو إسحاقٍ الزَّجَّاجُ أَيْضًا مُتَعَلِّقًا بـ {مُنْتَصِرًا} وَ "الحَقّ" نَعْتٌ للاسْمِ الجَليلِ.
قوْلُهُ: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} الثوابُ: مِنْ ثابَ الرَّجُلُ يَثُوبُ ثَوْبًا وثَوَبانًا رَجَعَ بَعْدَ ذَهَابِهِ، وأَثابَهُ عَلَى صَنِيعِهِ، يُثِيبُهُ إِثابَةً، جازاهُ على عملِهِ. وَالْعُقُبُ، بِضَمَّتَيْنِ وَبِسُكُونِ الْقَافِ بِمَعْنَى الْعَاقِبَةِ، أَيْ آخِرَةُ الْأَمْرِ. وَهِيَ مَا يَرْجُوهُ الْمَرْءُ مِنْ سَعْيِهِ وَعِمْلِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ للهِ الْحَقِّ} هُنَا: اسْمُ إِشَارَةٍ يُشارُ بِهِ إِلَى البَعيدِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ المَكانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِالاسْتِقْرارِ الذي تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بـ {مُنْتَصِرًا}، واللامُ: لِبُعْدِ المُشارِ إِلَيْهِ، والكافُ: للخِطابِ، والوَقْفُ عِنْدَ الظَّرْفِ. كَمَا تَقَدَّمَ بيانُهُ مفصَّلًا في مَبْحَثِ التَفْسيرِ. و "الْوَلايَةُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ. و "للهِ" اللامُ حرفُ جَرٍّ للاختصاصِ مُتَعَلِّقٌ بخبَرِ المُبْتَدَأِ، والتقديرُ: الوَلَايَةُ مُسْتَحِقَّةٌ مُسْتَقِرَّةٌ هُنَالِكَ للهِ لِا لِغَيْرِهِ، ولَفْظُ الجَلالَةِ مَجْرُورٌ بحرفِ الجرِّ، وهذه الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. و "الْحَقِّ" بالجَرِّ صِفَةٌ لاسْمِ الجَلالَةِ، وَبِالرَّفْعِ صِفَةٌ لِـ "الْوَلايَةُ"؛ أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ تقديرُهُ: هُوَ الحَقُّ.
قوْلُهُ: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} هُوَ: ضَميرٌ مُنْفْصِل مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالابْتِداءِ. و "خَيْرٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ. و "ثَوابًا" تَمْييزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ المُبْتَدَأِ مَنْصوبٌ بِـ "خيرٌ" لأَنَّهُ على وَزْنِ "أَفْعَل" التَفْضِيلِ. و "خَيْرٌ عُقْبًا" مثلُ "خَيْرٌ ثَوابًا" معطوفٌ عَلَيْهِ.
قرَأَ الجمهورُ: {الوَلايَةُ} بفتحِ الواوِ، وَقَرَأَ الأَخَوَانِ (حَمْزَةُ والكِسائيُّ)، والأَعْمَشُ، ويَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وشَيْبَةُ، وابْنُ غَزْوانٍ عَنْ طَلْحَةَ، وَخَلَفٌ. وابْنُ سَعدان. وابْنُ عِيسى الأَصْبَهَانِيُّ، وابْنُ جَريرٍ الطَبَرِيُّ: "الوِلايَةُ" بِكَسْرِ الوَاوِ وَهِيَ والوَلَايَةُ بِفَتْحِ الواوِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ، كالوِكالَةِ والوَكَالَةِ، والوِصَايَةِ وَالوَصَايَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ بالفَتِحِ النُّصْرَةُ وَالتَوَلِّي، وبِالكَسْرِ السُلْطَانُ وَالمُلْكُ، أَيْ: هُنَالِكَ السُّلْطَانُ لَهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يُغْلَبُ وَلَا يُمْتَنَعُ مِنْهُ وَلَا يُعْبَدُ غَيْرُهُ. وقالَ أبو عَمْرِو ابنُ العلاءِ، والأَصْمَعِيُّ: إِنَّ كَسْرَ الواوِ لَحْنٌ هُنَا لأَنَّ ما وزنُهُ "فِعَالَةٌ" إِنَّمَا يَجيءُ فيما كانَ صَنْعَةً ومَعْنًى مُتَقَلَّدًا كالكِتابَةِ، والإِمَارَةِ، والخِلافَةِ، وَلَيْسَ هُنَا تَوَلِّيَ أَمْرٍ إِنَّما هِيَ الوَلايَةُ "بِالفَتْحِ" بِمَعْنَى "الدِّين" بِالكَسْرِ، وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الأَخَوانِ (حمزةُ والكِسائيُّ)، وَحُمَيْدٌ، والأَعْمَشُ، وابْنُ أَبِي لَيْلَى، وابْنُ مُنْذِرٍ، وَاليَزيدِيُّ، وَابْنُ عِيسَى الأَصْبَهَانِيُّ: "الحقُّ" بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِـ "الولايةُ" ـ كَمَا تقدَّمَ بيانُهُ في مَبْحَثِ الإِعْرابِ، وَجَوَّزَ أَبُو البَقاءِ العُكْبُرِيُّ أَنْ يَكونَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، أَيْ: (هِيَ الحقُّ) أَوُ (هوَ الحَقُّ)، وَأَنْ يَكونَ مُبْتَدَأً و "هوَ" خَبَرُهُ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كعبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "هُنَالِكَ الوَلايَةُ * الحَقُّ للهِ" بِتَقديمِ "الحِقُّ" وَرَفْعِهِ، وَهوَ ما يُرَجِّحُ كَوْنَ "الحَقُّ" نَعْتًا للوَلايَةِ فِي القِراءَةِ السَّابِقَةِ.
وَقَرَأَ أَبُو حَيَوَةَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَمْرو بْنُ عُبَيْدٍ، وابْنُ أَبي عَبْلَةَ، وأَبُو السَّمَّالِ، وَيَعْقوبُ عَنْ عِصْمَةَ عَنْ أَبي عَمْرٍو "الحَقَّ" بالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ، والنَّاصِبُ لَهُ عامِلٌ مُقَدَّرٌ ،كَمَا فِي قَوْلِكَ: هَذَا عَبْدُ اللهِ حَقًّا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَعْتٌ مَقْطوعٌ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {عُقُبًا} بِضَمَّتَيْنِ وَبِالتَّنْوِينِ. وقَرَأَ الحَسَنُ، والأَعْمَشُ، وَحْمَزَةُ، وَعاصِمٌ، وَخَلَفٌ: "عُقْبًا" بِسُكُونِ القافِ وتَنْوينِ الباءِ، وَنُقلَ عَن عَاصِمٍ أنَّهُ قرأَ "عُقْبَى" عَلَى وَزْنِ رُجْعَى بِأَلِفِ التَأْنِيثِ المَقُصورِ؛ والمَعْنَى فِي الكُلِّ مَا تَقَدَّمَ.