وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} واتْلُ: أَيْ: واقْرَأْ، أَوْ اسْرُدْهُ عَلَى مَا نَزَلَ، أَوْ اتَّبِعْ أَحْكَامَهُ، وَلَا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذا أَوْ بَدِّلْهُ} الآيةُ: 15، منْ سُورَةِ يُونُسَ. فَالْأَمْرُ شَامِلٌ لِلتِّلَاوَةِ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ، وَالتِّلْوِ: بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَمْرِهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَاتِّبَاعِهِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الآيَةِ: 45، مِنْ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ}، وَكَقَوْلِهِ ِمِنْ آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} الْآيَتَانِ: (91 و 92)، وقالَ مِنْ سُورَةِ المُزَّمِّلِ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} الآيةَ: 4، إِلَى غَيْرِها مِنَ الْآيَاتِ المُبَارَكاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِتِلَاوَةِ هَذا الكتابِ الكريمِ، وَقدْ أَمَرَ ـ جلَّ وعَزَّ، بِاتِّبَاعِ ما في قُرْآنِهِ العَزِيزِ مِنْ تَكَالِيَفَ وَأَحْكَامٍ فَقَالَ في الآيةِ: 106، مِنَ سُورَةِ الأَنْعَامِ: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، وقالَ مِنْ سورةِ يونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} الآية: 15، وَقالَ مِنْ سُورةِ الزُّخرُف: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الآية: 43، وَقَالَ في الآيةِ: 9، مِنْ سُورَةِ الأَحْقَاف: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ قُرْآنِهِ العَظيمِ بَعْضَ النَّتَائِجِ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَاتِّبَاعِهِ، فَقَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 121، مِنْ سُورةِ البَقَرةِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. وقالَ مِنْ سُورةِ فاطر: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} الآية: 29، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
والقُرْآنُ الكَريمُ أَيْضًا شِفَاءٌ لِكُلِّ دَاءٍ لِقَولِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الإِسْراءِ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين} الآيَةَ: 82، فَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ شِدَّةٌ حِسِّيَّةٌ أَوْ مَعْنَوِيَّةٌ، دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ دِينِيَّةٌ، فَفَزِع إِلَيْهِ بِالتِّلاوَةِ أَوِ الصَّلاةِ بِهِ، رَأَى فَرَجًا قريبًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَالِالْتِجاءُ إِلى كَلامِ اللهِ هُوَ الالْتِجَاءُ إِلَى اللهِ، فَإِنَّ اللهَ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يَتَجَلَّى فِي كَلامِهِ لِلْقُلوبِ عَلَى قَدْرِ صَفَائِها، وَأَمَّا مَنِ الْتَجَأَ إِلَى غَيْرِ اللهِ فَقَدْ خَابَ رَجاؤُهُ وَبَطَلَ سَعْيُهُ؛ قالَ تَعَالَى: "وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا"، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: تَسَلَّ ـ حِينَمَا تَتَنَوَّعُ عَلَيْكَ الأَحْوالُ، بِمَا نُطْلِعُكَ عَلَيْهِ مِنْ الأَخْبَارِ؛ وَإِنَّ كُتُبَ الأَحْبَابِ فِيهَا شِفاءٌ لأَنَّها خِطابُ الأَحْبَابِ للأَحْبَابِ. وَيُسْتحَبُّ أَنْ يَخْتِمَ قارِئُ القُرْآنِ خَتْمَتَهُ أَوَّلَ النَّهارِ، أَوْ أَوَّلَ اللَّيلِ لِتَطُولَ صَلاةُ المَلائِكَةِ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُطَرِّفٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ خَتَمَ القُرْآنَ أَيَّةَ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنَ النَّهَار، صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ، وأَيَّةَ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاِئَكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ أَيْضًا عَنْ مُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. وَقالَ الإِمامُ الثَّعَالِبِيُّ في تَفْسيرِهِ، رُوِّينا فِي مُسْنَدِ الإِمَامِ المُجْمَعِ عَلى حْفْظِهِ وَجَلالَتِهِ وَإِتْقانِهِ وبَرَاعَتِهِ، أَبي مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِذَا وَافَقَ خَتْمُ القُرْآنِ أَوَّلَ اللَّيّلِ، صَلَّتَ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِنْ وَافَقَ خَتْمُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُمْسِي. قَالَ الإِمامُ الدَّارِمِيُّ: هَذَا حَديثٌ حَسَنٌ. وَقالَ الإمامُ النَّوَوِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يُسْتَحَبُّ لِتَالي القُرْآنِ إِذَا كانَ مُنْفَرِدًا أَنْ يَكونَ خَتْمُهُ في الصَّلاةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكونَ خَتْمُهُ أَوَّلَ اللَّيلِ، أَوْ أَوَّلَ النَّهارِ.
قوْلُهُ: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} لِأَنَّ أَخْبَارَ كَلِماتِ اللهِ صِدْقٌ، وَأَحْكَامَهَا عَدْلٌ، ولِذَلِكَ لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُبَدِّلَ صِدْقَهَا كَذِبًا، وَلَا أَنْ يُبَدِّلَ عَدْلَهَا جَوْرًا، وَالتَّبْدِيلُ: التَّغْيِيرُ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، أَيْ بِإِخْفَاءِ بَعْضِهِ بِتَرْكِ تِلَاوَةِ مَا لَا يَرْضَوْنَ بِسَمَاعِهِ مِنْ إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي بَعْضِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمُ الْقِصَّةُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى في الآيةِ: 22، مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} وَهَوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 115، مِنْ سُورَةِ الأَنْعَامِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، فَقَوْلُهُ: {صِدْقًا} يَعْنِي فِي الْإِخْبَارِ، وَ {عَدْلًا} أَيْ: فِي الْأَحْكَامِ. وَكَقَوْلِهِ في الآيةِ: 34، مِنْهَا: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}. فَلاَ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا فِيهِ مِنْ وَعِيدٍ لأَهْلِ المَعَاصِي، وَمِنْ وَعْدٍ لأَهْلِ الطَّاعَةِ وَالإِيمَانِ، وَلَا تَغْيِيرَ لِحُكْمِهِ؛ فَمَنْ أَقْصَاهُ فَلَا قَبُولَ لَهُ، وَمَنْ أَدْنَاهُ فَلَا مُبْعِدَ لَهُ، وَمَنْ قَبِلَهُ فَلا رَادَّ لَهُ، وَمَنْ قَرَّبَهُ فَلَا صَادَّ لَهُ. فَما مِنْ قادِرَ عَلَى تَبْدِيلِهِ وَتَغْييرِهِ غَيْرُهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ هذا الكتابِ العزيزِ، أَنَّهُ هُوَ يُبَدِّلُ مَا شَاءَ مِنَ الْآيَاتِ مَكَانَ مَا شَاءَ مِنْهَا، فقَالَ في الآيةِ: 106، مِنْ سُورةِ البَقَرَة: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، وقالَ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} الآيَةِ: 101، وَقَالَ في الآيةَ: 15، مِنْ سُّورَةِ يونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}.
قوْلُهُ: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} أَيْ: ولا مَلْجَأَ تَعْدِلُ إِلَيْهِ عِنْدَ إِلْمَامِ مُلِمَّةٍ بِكَ. فَـ "مُلْتَحَدًا" أَيْ جَانِبًا تَمِيلُ إِلَيْهِ؛ وَمِنْهُ اللَّحْدُ. وَالْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ، وَالْمُلْحِدُ الْمَائِلُ عَنْ دِينِ الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الصَّرْفِ أَنَّ الْفِعْلَ إِنْ زَادَ مَاضِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَمَصْدَرُهُ الْمِيمِيُّ وَاسْمُ مَكَانِهِ وَاسْمُ زَمَانِهِ كُلُّهَا بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَمَا هُنَا، فَالْمُلْتَحَدُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَكَانُ الِالْتِحَادِ، أَيِ: الْمَكَانُ الَّذِي يَمِيلُ فِيهِ إِلَى مَلْجَأٍ أَوْ مَنْجًى يُنْجِيهِ مِمَّا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِ.
فَقدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى هُنَا أَنَّ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَجِدُ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا، أَيْ: مَكَانًا يَمِيلُ إِلَيْهِ، وَيَلْجَأُ إِلَيْهِ، إِنْ لَمْ يُبَلِّغْ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَيُطِعْهُ، وجَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي آياتٍ أُخَرَ مِنْ كتابِهِ العزيز، كَقَوْلِهِ في الآيات: (44 ـ 47)، مِنْ سورةِ الحاقَّةِ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}، وَكَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الجِنِّ: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ}، الآيَتَيْنِ: (21 و 22)، وَيجوزُ أَنْ يكونَ المَعْنَى: {لَنْ تَجِدَ، إِنْ بَدَّلْتَ؛ تَقْديرًا، وخَالَفْتَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، مُلْتَحَدًا. وَرُوِيَ عنْ مُجاهدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّهُ قالَ: "مُلْتَحَدًا": مَلْجَأً. أَخْرَجَهُ عنهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْن الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ. ومِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لا تَحْفيا يَا أَخانَا مِنْ مَوَدَّتِنَا ............ فَمَا لَنَا عَنْكَ فِي الأَقْوَامِ مُلْتَحَدُ
وَرُوِيَ عنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قولُهُ "مُلْتَحَدًا"، يَعْني: وَلِيًّا. وَقالَ قُطْرُبٌ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: معنى "مُلْتَحَدًا": مَهْرَبًا. واستشهدَ بقولِ الشَّاعِرِ خَصِيبٌ الضَّمْرِيُّ:
يَا لَهْفَ نَفْسِي وَلَهْفٌ غَيْرُ مُجْزِيَةٍ ......... عَنِّي وَمَا مِنْ قَضَاءِ اللهِ مُلْتَحَدُ
أَيْ: مَهْرَبٌ، وَمَذْهَبٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْوَقْفِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ: "وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا"، مَا المُلْتَحَدُ؟ قَالَ: الْمدْخِلُ فِي الأَرْضِ، قَالَ فِيهِ الشاعِرُ خَصِيبٌ الضَّمْرِيُّ:
يَا لَهْفَ نَفْسِي وَلَهْفٌ غَيْرُ مُجْزِيَةٍ ......... عَنِّي وَمَا مِنْ قَضَاءِ اللهِ مُلْتَحَدُ
وَقَالَ سَعِيدٌ الأَخْفَشُ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: معنى "مُلْتَحَدًا": مَعْدِلًا. وَكَلُّها مَعَانٍ مُتَقَارِبَةٌ واللهُ أعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَ "اتْلُ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ العِلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، أَوْ هِيَ نَكِرَةٌ مَوْصوفةٌ. و "أُوحِيَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ، وَنَائِبُ فَاعِلِهِ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "ما"، والجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "ما" فَلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في مَحَلِّ النَّصْبِ إِنْ أُعْرِبَتْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. و "إِلَيْكَ" إلى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلَّقٌ بِـ "أُوحِيَ"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "ما" المَوْصُولَةِ، وَ "كِتابِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، و "رَبِّكَ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ مُضافٌ أَيْضًا، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إليْهِ.
قولُهُ: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} لا: نَافِيَةٌ للجِنْسِ تعملُ عَمَلَ "إِنَّ". وَ "مُبَدِّلَ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُها. و "لِكَلِماتِهِ" اللامُ: حرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "لا"، و "كَلِماتِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ "رَبِّكَ" لِأَنَّ المُضافَ كَالْجِزْءِ مِنَ المُضافِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} الواوُ: للعَطْفِ. و "لَنْ" حرفٌ ناصِبٌ، وَ "تَجِدَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "لَنْ"، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "مُلْتَحَدًا"، وَ "دونِهِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "مُلْتَحَدًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "لا" عَلَى كَوْنِها حَالًا مِنْ "رَبِّكَ".