وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا
(39)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ} لولا: للحَضِّ، والمُبَالَغَةِ فِي الإنْكارِ، أَوْ لِلتَّوْبِيخِ، كَشَأْنِهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي، نَحْو قولِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النُّورِ: {لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} الآيةَ: 13، وَ "إِذْ" بِمَعْنَى: "وَقْتَ"، أَوْ "حِينَ" أَيْ: هَلَّا قُلْتَ ـ وَقْتَ دُخُولِكَ جَنَّتَكَ، وَحِينَ رُؤْيَتِكَ هَذِهِ النِّعَمَ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْكَ بِهَا، هَذَا مَا شَاءَ اللهُ، وهوَ بإِرادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلَوْلَا مَشِيئَتِهِ وسَابِغِ نِعْمَتِهِ عَلَيَّ مَا نَلْتُهَا. وقَالَ الفَرَّاءُ والزَجَّاجُ المَعْنَى: هَلَّا قُلْتَ حِينَ دَخَلْتَهَا: الأَمْرُ بِمَشِيئَةِ اللهِ، وَمَا شَاءَ اللهُ كانَ، أَوْ كائنٌ. أَيْ: كُلُّ شَيْءٍ شَاءَهُ اللهُ كانَ فَتَرُدَّ أَمْرَ جَنَّتِكَ، وَمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الخِصْبِ والنَّضَارَةِ والحُسْنِ، تَرُدَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِخَالِقِهِ العَظيمِ، وَلَا تُفاخِرُ بِهِ، لأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُنْعِكَ.
وَهَذَا رَدٌّ مِنْهُ عَلَى قَولِ صَاحِبِهِ الكَافِرِ في الآيةِ: 36، السَّابِقَةِ: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا}، يُعَلِّمُهُ فيهِ ويُرْشِدُهُ إِلَى سَبيلِ أَهْلِ الإِيمانِ في شُكْرِ النِّعْمَةِ، وَذَلِكَ بِرَدِّها إِلَى المُنْعِمِ بِهَا ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى؛ لِأَنَّ النِّعْمَ الَّتي يَتَقَلَّبُ فِيها الإِنْسانُ لَا فَضْلَ لَهُ فِيها سِوَى الكَسْبِ، فَكُلُّها خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، خَلَقَهَا ووَهَبَها للإنْسَانِ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِ بِها، لِيَتَنَعَّمَ بِهَا، ولِيَسْتَعِينَ بِهَذِهِ النِّعَمِ عَلَى شُؤُونِ حَيَاتِهِ مِنْ أَجْلِ اسْتِمْرارِها، وَقدِ ابْتَلاهُ بِهَا لِيَنظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُ؟. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} الآيَةَ: 40، مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُرَّةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ الدُّعَاءِ قَولُ الرَّجُلِ: "مَا شَاءَ اللهُ".
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ شَيْخٍ لَهُ قَالَ: الْكَلِمَةُ الَّتِي تَزْجُرُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ الشَّيَاطِينَ حَتَّى لا يَسْتَرِقونَ السَّمْعَ "مَا شَاءَ اللهُ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيْفٍ الكُوْفِيِّ، قَالَ: كَانَ مَالِكٌ إِذا دَخَلَ بَيْتَهُ قَالَ: "مَا شَاءَ اللهُ"، قُلْتُ لِمَالِكٍ لِمَ تَقولُ هَذَا؟. قَالَ: أَلَا تَسْمَعُ اللهَ يَقُولُ: "وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: رَأَيْت عَلى بَابِ وَهْبِ ابْنِ مُنَبِّهٍ مَكْتُوبًا "مَا شَاءَ اللهُ" وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: "وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: مَا سَأَلَ رَجُلٌ مَسْأَلَةً أَنْجَحَ مِنْ أَنْ يَقُولَ: "مَا شَاءَ اللهُ".
وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدِ بْنِ حنبل فِي زَوَائِد الزُّهْدِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَليمٍ الطَّائِفِيِّ عَمَّنْ ذَكَرَهُ، قَالَ: طَلَبَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ رَبِّهِ حَاجَةً فَأَبْطَأْتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: "مَا شَاءَ اللهُ" فَإِذا حَاجَتَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَنَا أَطْلُبُ حَاجَتِي مُنْذُ كَذَا وَكَذَا أَعْطَيْتِنِيها الْآنَ؟ فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ يَا مُوسَى أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَكَ: "مَا شَاءَ اللهُ" أَنْجَحُ مَا طَلَبْتَ بِهِ الْحَوَائِجَ.
قوْلُهُ: {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ} تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ تِلْكَ الْجَنَّةِ مِنْ مَشِيئَةِ اللهِ، أَيْ لَا قُوَّةَ لِي عَلَى إِنْشَائِهَا، أَوْ لَا قُوَّةَ لِمَنْ أَنْشَأَهَا إِلَّا بِاللهِ، فَإِنَّ الْقُوَى كُلَّهَا مَوْهوبَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، ولَا تُؤَثِّرُ إِلَّا بِإِعَانَتِهِ بِسَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ الْمُفَكِّرَةِ وَالصَّانِعَةِ. فَمَا فِي جُمْلَةِ "لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ" مِنَ الْعُمُومِ جَعَلَهَا كَالْعِلَّةِ وَالدَّلِيلِ لِكَوْنِ تِلْكَ الْجَنَّةِ جُزْئِيًّا مِنْ جُزْئِيَّاتِ مُنْشَئَاتِ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةِ الْمَوْهُوبَةِ لِلنَّاسِ بِفَضْلِ اللهِ ـ تَعَالى. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَقُولِ الرَّجُلِ المُؤْمِنِ لِصَاحِبِهِ الكافِرِ، أَيْ: هَلَّا قُلْتَ أَيْضًا "لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ" وذَلِكَ حَضًّا لَهُ عَلَى الاعْتِرَافِ بِأَنَّ جَنَّتَهُ وَمَا فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، إِنْ شَاءَ أَبْقَاها عَلى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ حَوَّلَها وغَيَّرَها وبَدَّلَ حَالَهَا أَوْ أَفْنَاهَا. كَمَا حَضَّهُ عَلَى الاعْتِرافِ بِالعَجْزِ والضَّعْفِ وقِلَّةِ الحِيلَةِ، وَأَنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لَهُ، وكَذَلِكَ القُوَّةُ هِيَ لَهُ وَحْدَهُ ـ سُبْحانَهُ، وأَنَّ مَا فِي جَنَّتِهِ مِنْ طلعةٍ نَضِيرَةٍ، وَخَيْراتٍ وَفيرةٍ، مَا كانَ لِيَكونُ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ ـ جَلَّ جَلالُهُ العَظيمُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَقْوَى أَحَدٌ عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ مُلْكٍ وَنِعْمَةٍ إِلَّا بِاللهِ، وَلَا يَكونُ إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحاديثُ وَآثارٌ كثيرةٌ عَنِ السَّلَفِ الصَّالحِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، فِي فَضْلِ هَذِهِ الكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ المُباركَةِ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجنَّةِ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتِمٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها، قَالَتْ: عَلَّمَني رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَلِمَاتٍ أَقولُهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ: (اللهُ اللهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا). وأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلى عَبْدٍ نِعْمَةً فِي أَهْلٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ وَلَدٍ، فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللهُ، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، إِلَّا دَفَعَ اللهُ عَنْهُ كُلَّ آفَةٍ حَتَّى تَأْتِيهِ مَنِيَّتُهُ))، وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ الكَريمَةَ.
وَأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبِلٍ مِنْ حَديثِ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هَلْ لَكَ بِكَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ تَحْتَ العَرْشِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْ تَقُولَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)). مُسْنَدُ الإِمامِ أَحْمَدٍ: (بِرَقَم: 5/172).
وَثَبَتَ في الصَّحيحِ مِنْ حَديثِ أَبي مُوسَى الأَشْعَريِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ لَهُ: ((أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ؟. لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)). صحيحِ البُخَاري: برقم: (1423)، وصَحيح مُسْلِمٍ: بِرَقَم: (2704).
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبيرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ كَانَ إِذا رَأَى مِنْ مَالِهِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ، أَوْ دَخَلَ حَائِطًا مِنْ حِيطانِهِ قَالَ: "مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ"، وَيَتَأَوَّلُ قَوْلَ اللهِ ـ تَعَالَى: "وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ أَبَاهُ دَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَخْدِمُهُ، قَالَ: فَخَرَجَ عَلَيَّ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، واضطَّجَعْتُ، فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةَ؟. قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ شِهَابٍ إِذا دَخَلَ أَمْوَالَهُ قَالَ: "مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ" وَيَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ تَعالى: "وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ" الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؟. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ".
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبي أُمَامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لأَبي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ؟)). قَالَ: بَلَى. قَالَ: ((قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)).
وَأخَرْجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ أَبي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: قَالَ: أَمرنِي رَسُول الله ـ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَن أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله فَإِنَّهُ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقُولُ: ((أَلَا أَدُلُّكم عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ تُكْثِرُونَ مِنْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَأَرَادَ بَقَاءَهَا فَلْيُكْثِرْ مِنْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ".
قَوْلُهُ: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} أَيْ: إِنْ كُنْتَ تَكَبَّرْتَ عَليَّ وجَبَّرْتَ بِسَبَبِ كَثْرَةٍ في مَالَكِ وَوَلَدَكَ، وخدَمِكَ وحَشَمِكَ، وَتَرَى قِلَّةً فِي ذَلِكَ عِنْدِي. والرُّؤْيَةُ هُنَا إِمَّا عِلْمِيَّةٌ أَوْ بَصَرِيَّةٌ، فإِذَا جَعَلْتَها بَصَرِيَّةً تَعَيَّنَ فِي الضميرِ "أَنَا" أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لَا فَصْلًا، لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، أَوْ مَا كانَ المُبْتَدَأُ وَالخَبَرُ أَصْلًا لَهُ، وإِذا جَعَلْتَ الرُّؤْيَةَ عِلْميَّةً كانَ الضَّمِيرُ المنفصِلُ "أَنَا" تَأْكيدًا لِيَاءِ المُتَكَلِّمِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، و "لَوْلا" حَرْفٌ للتَحْضيضِ بِمَعْنَى هَلَّا. و "إِذْ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمانِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قُلْتَ". و "دَخَلْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٌ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وَالتاءُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ. و "جَنَّتَكَ" منصوبٌ بالفاعليَّةِ عَلَى السَّعَةِ، مُضافٌ، وكافُ الخِطَابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإضَافَةِ "إِذْ" إِلَيْها. وَ "إِذْ دَخَلْتَ" مَنْصُوبٌ بِـ "قُلْتَ" فُصِلَ بِهِ بَيْنَ "لولا" وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُبَالَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ، وإِذا دَخَلَ حَرْفُ التَحْضِيضِ عَلى الفعلِ المَاضِي كَانَ للتَوْبيخِ.
قولُهُ: {قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ} قُلْتَ: مثلُ "دَخَلْتَ" وَالتَّقْديرُ: وَلَوْلَا قُلْتَ وَقْتَ دُخُولِكَ جَنَّتَكَ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قالَ". وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، والتَقْديرُ: هَذَا الذي أُعْطيتَهُ هوَ مَا شَاءَهُ اللهُ وَأَرادَهُ لَا بِحَوْلِي وَقُوَّتي، أَوْ في مَحَلِّ الرَّفِعِ بالابْتِداءِ وَخَبَرُهَا مَحْذوفٌ، أَيْ: الذي شَاءَهُ اللهُ كائنٌ وَوَاقِعٌ. وَيَجُوزُ أَنْ "ما" تَكونَ شَرْطِيَّةً، فَتَكونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ مَفْعُولًا مُقَدَّمًا وُجُوبًا بـ "شاءَ" أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ شَاءَ اللهُ. وجَوابُ الشَّرطِ مَحْذوفٌ، أَيْ: مَا شَاءَ اللهُ كانَ وَوَقَعَ. والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قُلْتَ". وَ "شاءَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفتْحِ، وَلَفْظُ الجَلالةِ فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، والعائدُ مَحْذوفٌ والتقديرُ: مَا شَاءَهُ اللهُ ـ تَعَالَى.
قوْلُهُ: {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ} لا: نَافِيَةٌ للجِنْسِ تَعْمَلُ عَمَلَ "إِنَّ". و "قُوَّةَ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهَا. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغ. و "بِاللهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "لا" النافيةِ للجنسِ، ولَفْظُ الجَلالةِ اسمٌ مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَجُمْلَةُ "لا" مِنِ اسْمِها وخبرِها في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قُلْتَ". أَيْ: لَوْلَا قُلْتَ هَاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ.
قوْلُهُ: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ. و "تَرَنِ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لهَا، وَعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حَرْفُ العِلَّةِ، وَهِيَ الأَلِفُ وَالفَتْحَةُ قبْلَها دَلِيلٌ عَلَيْهَا، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنَا) يَعُودُ عَلَى المُؤْمِنِ، وَالنُّونُ للوِقَايَةِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذُوفَةُ اجْتُزِأَ عَنْهَا بِكَسْرَةِ نُونِ الوَقايَةِ، فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ لِـ "تَرَى"، و "أَنَا" ضميرُ فصلٍ مُؤَكِّدٌ لِياءِ المُتَكَلَّمِ المَحْذوفَةِ. ويجوزُ أَنْ ضَمِيرَ فَصْلٍ بَيْنَ المَفْعُولَيْنِ. وَ "أَقَلَّ" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ لِـ "تَرَ". أَوْ هي حَالٌ، بِحَسَبِ الوَجْهَيْنِ فِي الرُّؤْيَةِ: هَلْ هِيَ بَصَرِيَّةٌ أَوْ عِلْمِيَّةٌ؟ إِلَّا أَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَهَا بَصَرِيَّةً تَعَيَّنَ فِي "أَنَا" أَنْ تَكونَ تَوْكِيدًا لَا فَصْلًا؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، أَوَ مَا أَصْلُهُ المُبْتَدَأُ وَالخَبَرُ. وجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ مِنَ الآيةِ الآتيةِ بعدَها: {فَعَسَى رَبِّي}. وَ "مِنْكَ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَقَلَّ". و "مَالًا" تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ المُبْتَدَأِ، مَنْصُوب باسْمِ التَفْضِيلِ "أَقَلَّ". و "وَلَدًا" مَعْطُوفٌ عَلَى "مَالًا" منصوبٌ مِثْلُهُ.
قَرَأَ الجمهورُ: {أَقَلَّ}، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ "أَقَلُّ" بالرَّفْعِ، ويَتَعَيَّنُ أَنْ يَكونَ "أَنَا" مُبْتَدَأً، وَ "أَقَلُّ" خَبَرُهُ. والجُمْلَةُ: إِمَّا في مَوِضِعِ المَفْعولِ الثاني، وإِمَّا في مَوْضِعِ الحالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الرُّؤْيَةِ.
قَرَأَ الجمهورُ: {إِنْ تَرَنِ أَنَا} بحذفِ العلَّةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثيرٍ: "إِنْ تَرَنِي أَنَا" وَ "يُؤْتِيَنَي خَيْرًا" بِيَاءٍ فِي الوَصْلِ والوَقْفِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو بِيَاءٍ فِي الوَصْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ كذلكَ بِحَذْفِ الياءِ فِيهِما وَصْلًا وَوَقْفًا.