قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا
(2)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} المُرادُ بالْقَيِّمُ هُنَا أَنَّهُ قَيِّمٌ عَلَى هَدْيِ الْأُمَّةِ وَإِصْلَاحِهَا، وهي صِفَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْقِيَامِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَى دَوَامِ تَعَهُّدِ شَيْءٍ وَمُلَازَمَةِ صَلَاحِهِ، لِأَنَّ التَّعَهُّدَ يَسْتَلْزِمُ الْقِيَامَ لِرُؤْيَةِ الشَّيْءِ وَالتَّيَقُّظَ لِأَحْوَالِهِ، فَإنَّ كَمَالَ القرآنِ الكريمِ مُتَعَدٍّ بِالنَّفْعِ، وَالقيِّمُ أيْضًا ههُ المُسْتَوِي بِعَكْسِ المُعْوَجِّ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "قَيَّمًا" قَالَ: مُسْتَقِيمًا. والبَأْسُ الشَّديدُ الذي جاءَ ليُنِذِرَ مِنْهُ هُوَ العَذَابُ الشَّديدُ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدَّيَّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا" قَالَ: عذَابًا شَدِيدًا. وَيُطْلَقُ البأْسُ الشَّديدُ عَلَى الْقُوَّةِ فِي الْحَرْبِ لِأَنَّهَا تُؤْلِمُ الْعَدُوَّ. كما تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} الْآيةِ: 177. ومَعْنَى "مِنْ لَدُنْهُ" مِنْ عِنْدِهِ، لِمَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مِنْ لَّدُنْهُ" أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: شِدَّةُ الْحَالِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وفيهِ تَهْدِيدٌ للْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ مِنَ اللهِ. بِأَنَّهمْ سَيَلْقَوْنَ عَلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَذَلِكَ هُوَ البَأْسُ مِنْ لَدُنْهُ تَعَالَى إِذْ هُو بِتَقْدِيرِهِ وَأَمْرِهِ لِعِبَادِهِ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ المُرَادَ بِالْبَأْسِ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْ لَدُنْهُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يَشْمَلُ عَذَابَ الدُّنْيَا الْآخِرَةِ، وإذًا فَـ "لَدُنْ" هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَيَيْها الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ. وفيها لغاتٌ: لَدُ، ولَدُنْ، ولَدَى، والمَعْنَى واحِدٌ، وَلَا تَتَمَكَّنُ "لَدُنْ" تَمَكُّنَ "عِنْدَ"؛ فإِنَّكَ تَقُولُ: هَذَا القَوْلُ صَوَابٌ عِنْدي، وَلا تَقولُ: هوَ لَدُنِّي صَوَابٌ، وتَقُولُ: عِنْدِي مَالٌ عَظيمٌ، والمَالُ غائبٌ عَنْكَ، فإنَّ "لَدُنْ" تقولُها لِمَا يَليكَ لَا غَيْر.
قولُهُ: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} هُوَ سَبَبٌ آخَرُ لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ أَثَارَتْهُ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْإِنْذَارِ لِيَبْقَى الْإِنْذَارُ مُوَجَّهًا إِلَى غَيْرِهِمْ.
قولُهُ: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} ذَكَرَ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ قَبْلُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ الْأَجْرِ بِحُصُولِ ذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ. والأَجْرُ الحَسَنُ هُنَا هُوَ الجَنَّةُ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَيُبَشَّرُ الْمُؤمنِينَ الَّذينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا" يَعْنِي الْجَنَّةَ. وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: يُريدُ ثَوَابًا عَظِيمًا. "جَامِعَ البَيَانِ" للطَّبريِّ: (15/192).
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} قَيِّمًا: مَنْصوبٌ عَلى الحَالِ مِنْ الضَمِيرِ في "لَهُ" مِنَ الآيةِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، قالهُ العُكْبُريُّ. وَقِيلَ: هِيَ حَالٌ مُنْتَقِلَةٌ. وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّ القَوْلَ بالانْتِقَالِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ وَاوُ "وَلَمْ" مِنَ الآيَةِ السَّابِقَةِ حالِيَةً، وجُمْلَةُ "يَجْعَلْ" الفِعْلِيَّةُ في محلِّ النَّصْبِ على كونِها حالًا أُولَى مِنَ "الْكِتابَ" وَ "قَيِّمًا" حَالًا ثَانِيَةً مِنْهُ مُتَدَاخِلَةً، وَالتَقْديرُ: أَنْزَلَهُ غَيْرَ جَاعِلٍ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ حالًا مِنَ "الكِتابِ". وَالجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ "وَلَمْ يَجْعَلْ" اعْتِرَاضٌ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ انْتَصَبَ "قَيِّمًا"؟ قُلْتُ: الأَحْسَنُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِمُضْمَرٍ، وَلَمْ يُجْعَلْ حَالًا مِنَ "الكِتَابَ" لِأَنَّ قوْلَهُ "وَلَمْ يَجْعَلْ" مَعْطُوفٌ عَلَى "أَنْزَلَ" فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، فَجَاعِلُهُ حَالًا، فَاصِلٌ بَيْنَ الحَالِ وَذِي الحَالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ). وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ. وجَوَابُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الجُمْلَةَ مُعْتَرِضَةٌ ولَيْسَتْ مَعْطوفَةً عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ. ويَجُوزُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، تَقْديرُهُ: جَعَلَهُ قِيِّمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْديرُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، جَعَلَهُ قَيَّمًا، لأَنَّهُ إِذَا نَفَى عَنْهُ العِوَجَ فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ الاسْتِقامَةَ. فَإِنْ قُلْتَ: ما فائدُةُ الجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِ العِوَجِ وإِثْبَاتِ الاسْتِقَامَةِ، وَفِي أَحَدِهِما غِنًى عَنِ الآخَرِ. قُلْتُ: فائدَتُهُ التَأْكيدُ، فَرُبَّ مُسْتَقِيمٍ مَشْهُود لَهُ بالاسْتِقامَةِ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَدْنى عِوَجٍ عِنْدَ التَّصَفُّحِ والسَّبْرِ. ويَجُوزُ أَنَّهُ حالٌ ثانيَةٌ، وَالجُمْلَةُ المَنْفِيَّةُ قَبْلَهُ حَالٌ أَيْضًا، وتَعَدُّدُ الحالِ لِذِي حَالٍ واحِدٍ جَائِزٌ. وَالتَّقْديرُ: أَنْزَلَهُ غَيْرَ جَاعِلٍ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا. ويَجُوزُ أَنَّهُ حَالٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الجُمْلَةِ قَبْلَهُ لِأَنَّها حَالٌ، وَإِبْدَالُ المُفْرَدِ مِنَ الجُمْلَةِ إِذَا كانَتْ بِتَقْديرِ مُفْرَدٍ جائزٌ. وَالتَقْديرُ: وَهَذَا كمَا أُبْدِلَتِ الجُمْلَةُ مِنَ المُفْرَدِ فِي قَوْلِهِمْ: عَرَفْتُ زَيْدًا أَبُو مَنْ هُوَ. وللضَّمِيرِ فِي "لَهُ" وَجْهانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ للكِتابِ، وَعَلَيْهِ التَخَاريجُ المُتَقَدِّمَةُ. وَالثاني: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى "عَبْدِهِ"، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ. وَ "لِيُنْذِرَ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ وَتَعْلِيلٍ. و "يُنْذِرَ" فعلٌ مُضارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ جَوازًا بَعْدَ لامِ "كَيْ"، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى "الْكِتَابَ"، وَ "يُنْذِرَ" يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَوَّلُهُما مَحْذوفٌ، والتَقْديرُ: لِيُنْذِرَ الذينَ كَفَرُوا بِهِ. و "بَأْسًا" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ لَهُ منصوبٌ. و "شَدِيدًا" صِفَةٌ لِـ "بَأْسًا"، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعَ "أَنْ" المضُمْرَةَ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِاللِّامِ، وَالجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَلَ" والتَقْديرُ: الحَمْدُ للهِ الذي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتَابَ لِإِنْذَارِهِ الذينَ كَفَرُوا بِهِ بِأْسًا شَديدًا. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةِ النَّكِرَةِ وهِيَ قَوْلُهُ: "بِأْسًا"، وَفِيها ذِكْرُ المَوْصُوفِ. أَوْ يَتَعَلَّقُ بـ "شَديدًا"، و "لَدُنْهُ" اسْمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ. وَالهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ "يُبَشِّرَ" مَعْطوفٌ عَلَى "يُنْذِرَ" وَلَهُ نَفْسُ إِعْرابِهِ. وَ "الْمُؤْمِنِينَ" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالِمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ فِي الاسْمِ المُفْرَدِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَوْ عَلَى "الكِتَابَ"، وَالجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يُنْذِرَ" عَلَى كونِها مَعَ "أَنْ" المُضُمْرَةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِلامِ الجرِّ والتَّعْلِيلِ، و "الَّذِينَ" اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ النَّصْبِ صِفَةً للمُؤْمِنِينَ. و "يَعْمَلُونَ" فعلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعلُهُ. و "الصَّالِحاتِ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ وعلامةُ نَصْبِهِ الكسْرةُ نيابةً عنِ الفتحةِ لأَنَّهُ جمعُ المُؤنَّثِ السَّالمُ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرَابِ.
قوْلُهُ: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} أَنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشبَّهٌ بالفِعْلِ. و "لَهُمْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "أَنَّ"، المُقَدَّمِ عَلَى اسْمِهَا. والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "أَجْرًا" اسْمُهَا المُؤَخَّرُ، مَنْصوبٌ بها. و "حَسَنًا" صِفَةٌ لاسْمِ "أَنَّ" منصوبةٌ مثلُهُ. وجُمْلَةُ "أَنَّ" مِنِ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا ثَانيًا لِـ "يُبَشِّرَ" عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى أَنَّ "يُبَشِّرَ" يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، وَقِيلَ: هُوَ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصوبٍ بِنَزْعِ الخَافِضِ، والخافِضُ المَحْذُوفُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُبَشِّرَ" والتَقْديرُ: وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنينَ بِكَوْنِ أَجْرٍ حَسَنٍ لَّهُمْ. أَوْ بِأَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا.
قَرَأَ العامَّةُ: {قَيِّمًا} بِتَشْديدِ الياءِ. وقَرَأَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ "قِيَمًا" بِفَتْحِهَا خَفِيفَةً. ووَقَفَ حَفْصٌ عَلَى تَنْوينِ "عِوَجًا" يُبْدِلُهُ أَلِفًا، وَيَسْكُتُ سَكْتَةً لَطَيفَةً مِنْ غَيْرَ قَطْعِ نَفَسٍ، إِشْعَارًا بِأَنَّ "قَيِّمًا" لَيْسَ مُتَّصِلًا بـ "عِوَجًا"، وَإِنَّما هُوَ مِنْ صِفَةِ الكَتَابْ. ولَمْ يَعْبَأْ غَيْرُهُ بِهَذَا الوَهْمِ، فَلَمْ يَسْكُتْ اتِّكالًا عَلَى فَهْمِ المَعْنَى. وَيُؤيِّدُ قِراءَةَ حَفْصٍ مَا فِي بَعْضِ مَصَاحَفِ الصَّحَابَةِ الكِرامِ ـ رُضْوانُ اللهِ عَلَيْهِمْ: "وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا"، لَكِنْ جَعَلَهُ قَيَّمًا. وَبَعْضُ القُرَّاءِ يُطْلِقُ فَيَقُولُ: يَقِفُ عَلَى "عِوَجًا"، وَلَمْ يَقُولوا: يُبَدِّلُ التَنْوينَ أَلِفًا، فَيُحْتَمَلُ ذَلِكَ، وَهَوَ أَقْرَبُ لِغَرَضِهِ فِيمَا ذَكَرْتُ. ورَأَيْتُ الشيْخَ شِهابَ الدِّينِ أَبَا شَامَةَ قَدَ نَقَلَ هَذَا عَنِ ابْنِ غَلْبُونَ وأَبي عَلِيٍّ الأَهْوَازِيِّ، أَعْنِي الإِطْلاقَ. ثُمِّ قالَ: وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ ـ أَيْ: عَلَى إِبْدالِ التَّنُوينِ أَلِفًا، فإِنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى التَنْوينِ لَكانَ أَدَلَّ عَلَى غَرِضِهِ، وَهوَ أَنَّهُ وَاقِفٌ بِنِيَّةِ الوَّصلِ .
وقالَ الأَهْوَازيُّ: لَيْسَ هوَ وَقْفًا مُخْتَارًا، لأَنَّ فِي الكَلامِ تَقْديمًا وتَأْخِيرًا، مَعْنَاهُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا. ودَعْوَى التَقْديمِ والتَأْخِيرِ مَرْدودةٌ بِأَنَّها عَلَى خِلافِ الأصْلِ ـ وَإِنْ كانَ قالَ بِهِ غَيْرُهُ. وَقَدْ فَعَلَ حَفْصٌ فِي مَوَاضعَ مِنَ القُرْآنِ مِثْلَ فِعْلِهِ هُنَا مِنْ سَكْتَةٍ لَطِيفَةٍ نافِيَةٍ لِوَهْمٍ مُخِلٍّ. فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ كانَ يَقِفُ عَلَى "مَرْقَدِنا"، ويَبْتَدِئُ: "هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ" الآية: 52، مِنْ سورةِ يس. قالَ: (لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ (هَذَا) صِفَةٌ لِـ (مَرْقَدِنَا) فَالْوَقْفُ يُبَيِّنُ أَنَّ كَلامَ الكُفَّارِ انْقَضَى، ثُمَّ ابْتُدِئَ بِكَلامِ غَيْرِهِمِ. قَيلَ: هُمُ المَلائِكةُ. وَقِيلَ: هُمُ المُؤْمِنونَ. وَسَيَأْتي في سُورةِ (يَس) ـ إنْ شاءَ اللهُ، مَا يَقْتَضِي أَنْ يَكونَ (هَذَا) صِفَةً لـ (مَرْقَدِنا) فَيَفُوتُ ذَلِكَ. ومِنْ ذلكَ قولُهُ تَعَالى مِنْ سورةِ القيامَةِ: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} الآيَة: 27. كانَ يَقِفُ عَلَى نُونِ (مَنْ)، ثمَّ يَبْتَدِئُ بِـ (رَاقٍ)، قَالَ: لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّها كَلِمَةٌ وَاحَدَةٌ عَلى وَزْنِ "فَعَّال" أَيْ: اسْمُ فَاعِلٍ للمُبَالَغَةِ مِنْ (مَرَقَ يَمْرُقُ) فَهُوَ (مَرَّاقٌ). ومِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قولُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ المُطَفِّفِينَ: {بَلْ رَانَ} الآيَةَ: 14، كَانَ يَقِفُ عَلَى لامِ "بَلْ"، ويَبْتَدِئُ "رَانَ" لِلسَبَبِ المُتَقَدَّمِ.
قالَ المَهْدَوِيُّ: وَكانَ يَلْزَمُ حَفْصًا مِثْلُ ذَلِكَ، فِيمَا شَاكَلَ هَذِهِ المَوَاضِعَ، وَهُوَ لَا يَفْعَلُهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِقِراءَتِهِ وَجْهٌ مِنَ الاحْتِجَاجِ إِلَّا اتِّباعُ الأَثَرِ فِي الرِّوَايَةِ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: أَوْلَى مِنْ هَذِهِ المَوَاضِعِ بِمُرَاعَاةِ الوَقْفِ عَلَيْها قولُهُ مِنْ سُورَةِ يونُسَ ـ عليْهِ السَّلامُ: {ولا يَحْزُنْكَ قولُهم إِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا} الآية: 65، أَنْ يُوقَفَ عَلَى "قَوْلُهُم" لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ مَا بَعْدَهُ هوَ المَقُولُ، وكَذَا قولهُ مِنْ سورةِ غافرٍ: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * الذينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ} الآية: 67، يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَنَى بالوَقْفِ عَلَى "النَّارِ" لِئَلَّا تُتَوَهَّمَ الصِفَةُ هنا. فتَوَهُّمُ هَذِهِ الأَشْياءِ مِنْ أَبْعَدِ البَعِيدِ. وَقَالَ أَبو شَامَةَ أَيْضًا: وَلَوْ لَزِمَ الوَقْفُ عَلَى اللَّامِ وَالنُّونِ لِيَظْهَرَا لَلَزِمَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُدْغَمٍ. يَعْنِي: فِي "بَلْ رَانَ" وفي "مَنْ رَاقٍ".
قرَأَ العامَّةُ: {مِنْ لَدُنِهِ، فتحوا اللامِ وَضَمُّوا الدَّالِ وكَسَرُوا النُّونَ، رواه عَنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ. وقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبي بَكْرٍ: (مِنْ لَدُنِهِ)، بِشَمِّ الدَّالِ الضَّمَّةِ وبِكَسْرِ النَّونِ والهاءِ. وَهِيَ لُغَةُ الكِلابِيِّينَ. قالَ أَبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيُّ: وَفِي "لَدُنْ" لُغاتٌ: "لَدُن" مِثْلُ "سَبُع"، وتُخَفَّفُ الدَّالُ، فَإِذا خُفِّفَتْ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تُحْذَفَ الضَّمَّةُ مِنَ الدَّالِ، فَيُقَالُ: "لَدْن". وَالآخَرُ: أَنْ تُحْذَفَ الضَّمَةُ مِنَ الدَّالِ وَتُنْقَلَ إِلَى اللامِ، فَيُقالُ: "لُدْن"، وَفِي كِلَا الوَجْهَيْنِ يَجْتَمِعُ فِي الكَلِمَةِ سَاكِنَانِ: الدَّالُ المَنْقُولُ عَنْهَا الحَرَكَةُ، والمَحْذُوفَةُ مِنْهَا مَعَ النُّونِ. فَأَمَّا قِراءَةُ عَاصِمٍ: (مِنْ لَدْنِهِ) فالكَسْرَةُ فِي النُّونِ لَيْسَتْ بِجَرٍ، إِنَّمَا هِيَ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّالَ أُسْكِنَتْ كَمَا أُسْكِنَتْ فِي سَبُعٍ، وَالنُّونُ سَاكِنَةٌ، فَلَمَّا الْتَقَى سَاكِنانِ كُسِرَ الثاني مِنْهُمَا وَأُشِمَّتِ الدَّالُ الضَّمَّةَ، لِتَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً بِهَا، كَمَا قَالُوا: أَنْتِ تَغْزُين. وَقَوْلُهُمْ: قُيلَ، أُشِمَّتِ الكَسْرَةُ فِيهِمَا الضَّمَّةُ، لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ الأَصْلَ فِيهِمَا التَّحْرِيكُ بِالضَّمِّ، وَإِنْ كانَ إِشْمَامُ عَاصِمٍ لَيْسَ بِحَرَكَةٍ خَرَجَتْ إِلَى اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا هوَ تَهْيِئَةُ العُضْوِ لإِخْرَاجِ الضَّمَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ حَرَكَةً لَمْ يَلْتَقِ سَاكِنَانِ، وَلَمْ تُكْسَرِ النُّونُ لاجْتِمَاعِهِمَا.