آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا
جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا
(96)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} زُبَرُ الْحَدِيدِ: قِطَعُهُ، مفردُها: زُّبْرَةٌ وهِيَ الْقِطْعَةُ الضَّخْمَةُ مِنْهُ. قَيلَ: سَأَلَهُمُ الحَديدَ؛ لَتَوفُّرِهِ في بَلَدِهمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لأَنَّ الحديدَ أَلَيَنَ مِنَ الحَجَرِ وأَطوعَ وأَصْلَبَ. واللهُ تعالى أَعَلَمُ.
قوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أَيْ: سَاوَى بَيْنَ الحَائِطيْنِ الأَمَامِيِ والخَلْفِيِّ بِالجَبَلَيْنِ فجعلهما في مُسْتوًى واحِدٍ. وَ "الصَّدَفَيْنِ" (بِفَتْحَتَيْنِ) هُمَا جَانِبَا الْجَبَلَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَتَصَادَفَانِ، أَيْ: يَتَقَابَلَانِ. قَالَ تَعَالى في الآيَةِ: 157، مِنْ سُورَةِ الأَنْعَام: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} أَيْ: وَمَالَ عَنْها جانِبًا.
قولُهُ: {قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} ثُمَّ وَضَعَ الْمَنَافِخَ عَلَيْهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ كَالنَّارِ صَبَّ النُّحَاسَ الْمُذَابَ عَلَى الْحَدِيدِ الْمُحْمَى فَالْتَصَقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَصَارَ جَبَلًا صَلْدًا.
قوْلُهُ: {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} الْقِطْرُ: هُوَ هُنَا النُّحَاسُ المُذابُ، لأَنَّهُ يَقْطُرُ كما تقطُرُ السَّوائلُ، وثَمَّةَ إِضْمَارٌ هُنَا أَيضًا، وَالتَقْديرُ: فَأَتَوْهُ بِزُبَرِ الحَديدِ، فَوَضَعَ بَعْضَهَا فوقَ بَعْضٍ، بِحَيْثُ صَارَتْ تَسُدُّ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ مِنْ أَسْفَلِهِما إِلى أَعْلاهُما. وَهَكَذا انْسَبَكَ الحَديدُ المُلْتَهِبُ مَعَ النُّحاسِ المُنْصَهِرِ، فَأَصْبَحا حائطًا صَلْبًا أَمْلَسًا مُرتفعًا. لا يُمْكِنُ نَقْبُهُ ولا تَسَلُّقُهُ، قالَ تَعَالى: {فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وما اسْتَطاعوا لهُ نَقْبًا}.
وَهَذِهِ الطريقةُ في البِناءِ تُشْبِهُ إلى حَدًّ بَعِيدٍ مَا يَفْعَلُهُ المُهَنْدِسُونَ المِعْمارِيُّونَ اليَوْمَ بِالحَديِدِ والاسْمِنْتِ؛ إلَّا أَنَّهُ اسْتَخْدَمَ الحَديدَ المُحْمِيَّ، وَسَدَّ الفَجَواتِ بِالنُّحاسِ المَصْهُورِ لِيَكونَ أَمْلَسًا صَلْبًا، فَلَا يَتَمَكَّنُ العَدوُّ مِنِ اخْتِراقِهِ أَوْ تَسَلُّقِهِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} آتُونِي: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على حذْفِ النونِ مِنْ آخرِهِ لأَنَّ مُضارعَهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وَواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والنُّونُ للوِقايَةِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ أَوَّلُ. و "زُبَرَ" مَفْعُولُهُ الثاني مَنْصوبٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، و "الْحَدِيدِ" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ لِـ "قَالَ" عَلَى كَوْنِهَا مُفَسِّرَةً لِـ "أَعْينوني".
قولُهُ: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} حَتَّى: حَرْفُ جَرٍّ وَغَايَةٍ، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذوفٍ تَقْديرُهُ. فَجاؤوهُ بِمَا طَلَبَ فَبَنَى السَّدَّ وَجَعَلَ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ الفَحْمَ وَالحَطَبَ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ وَسَدَّ مَا بَيْنَ الجَبَلَيْنِ إِلَى أَعْلاهُما قَالَ انْفُخُوا ... . و "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ خافضٌ لِشَرْطِهِ متعلِّقٌ بجوابِهِ. و "سَاوَى" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى فتْحةٌ مُقَدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الألِفِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "ذِي القَرْنَيْنِ" وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الخَفْضِ بِإِضَافَةِ "إِذَا" إِلَيْهَا عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَالظَّرْفُ: مُتَعَلِّقٌ بالجَوَابِ الآتي. و "بَيْنَ" مَفعولٌ بِهِ لِـ "سَاوَى" كَمَا تقدَّمَ بيانُهُ في مَبْحَثِ التَفْسيرِ، وهوَ مُضافٌ، و "الصَّدَفَيْنِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ مُثنَّى، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفردِ.
قولُهُ: {قَالَ انْفُخُوا} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "ذِي القَرْنيْنِ" والجُمْلَةُ الفعليةُ جَوَابُ "إِذَا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، وَجُمْلَةُ "إذا" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِـ "حَتَّى". و "انْفُخُوا" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على حذْفِ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ، والألفُ فارقةٌ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قال".
قولُهُ: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} حَتَّى: حَرْفُ جَرٍّ وَغَايَةٍ. و "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمانِ، خافضٌ لِشرطِهِ متعلِّقٌ بجوابِهِ. و "جَعَلَهُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى "ذِي القَرْنَيْنِ"، والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ أوَّلٌ، و "نَارًا" مفعولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ. وَالجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ الجرِّ بإِضافَةِ "إذا" إِلَيْها، عَلى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قولُهُ: {قَالَ آتُونِي} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "ذِي القَرْنَيْنِ" وَالجُمْلَةُ جَوَابُ "إِذَا" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وجُملةُ "إِذَا" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بـ "حَتَّى" وهذا الجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَالَ انْفُخُوا". و "آتُونِي" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على حذْفِ النونِ مِنْ آخرِهِ لأَنَّ مُضارعَهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وَواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والنُّونُ للوِقايَةِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ أَوَّلُ، والمَفْعُولُ الثاني مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ العامِلِ الثاني عَلَيْهِ لِأَنَّ المَسْأَلَةَ مِنْ بابِ التَنَازُعِ، والتقديرُ: آتُونِي قِطْرًا. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ"
قولُهُ: {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أُفْرِغْ: فِعْلٌ مُضارِعٌ مَجْزومٌ بِالطَّلَبِ السَّابِقِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أَنَا" يَعُودُ عَلى "ذِي القَرْنَيْنِ". وَ "عَلَيْهِ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقُ بِـ "أُفْرِغْ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "قِطْرًا" مَفْعولٌ بِهِ لِـ "أُفْرِغْ" منصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَوْلِ لـ "قَالَ" عَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ الطَلَبِ، فَقد أُعْمِلَ الثاني هُنَا عَلَى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ وذلكَ لِقُرْبِهِ، وَلَوْ أُعْمِلَ الأَوَّلُ لِقِيلَ: آتُوني أُفْرِغْهُ عَلَيْهِ قِطْرًا فَثَمَّةَ مَحْذوفٌ هُنَا أَيضًا والتَقْدِيرُ: آتَوْنِي قِطْرًا، أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا، فَحُذِفَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وقد تقدَّمَ.
قَرَأَ الْعامَّةُ: {آتَوْنِي} الأُولى والثانِيَةِ بِمَدِّ الْأَلِفِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ "ائْتُونِي" مِنَ الْإِتْيَانِ، وَالتَّقْدِيرُ: ائْتُونِي بِزُبَرِ الْحَدِيدِ. ثُمَّ حُذِفَ الْبَاءُ كَقَوْلِهِ: شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، وَكَفَرْتُهُ وَكَفَرْتُ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنْ عَاصِمٍ أَيضًا. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ "ايتُوني" بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مِنْ أَتَى يَأْتِي فِي المَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِخِلافٍ عَنْهُ في الثاني. ووافَقَهُ حَمْزَةُ عَلَى الثاني مِنْ غَيْرِ خِلافٍ عَنْهُ.
قَرأَ الجمهورُ: {ساوَى}، وهي قراءةُ الحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُم جميعًا، وقرأَ قَتَادَةُ: "سَوَّى" بِالتَضْعيفِ. وقرَأَ عاصِمٌ في رِوَايَةٍ عنْهُ "سُوِّيَ" بالبِناءِ للمَفْعولِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {الصَدَفَيْنِ} بِفَتْحَتَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثيرٍ، وَأَبو عَمْرٍو، وابْنُ عَامِرٍ "الصُّدُفَيْنِ" بِضَمَّتَيْنِ. وقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ "الصُّدْفَيْنِ" بِضَمَّةٍ فَسُكُونٍ. وقرأَ أَبو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَحُمَيْدٌ: "الصَدْفَيْنِ" بِالفَتْحِ فسُكونٍ، وقرَأَ ابْنُ الماجِشونَ "الصَدُفَيْنِ" بِالفَتْحِ ثمَّ الضَّمِّ، وقرأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عنهُ "الصُّدَفَيْنِ" بِالعَكْسِ. والفَتْحُ لُغَةُ تَميمٍ، والضَّمُّ لُغَةُ حِمْيَر، وَهَذِهِ لُغَاتٌ كلُّها قُرِئ بِها في السَّبْعِ. فَـ "زُبُرَ" عَلَى القِراءَةِ بِهَمزةِ الوَصْلِ مَنْصُوبَةٌ عَلَى إِسْقاطِ الخافِضِ، أَيْ: جِيئوني بِزُبُرِ الحَديدِ. وَالنَّصْبِ فِي قَراءَةِ قَطْعِها عَلَى أَنَّها مَفعولٌ بِهِ ثانٍ لأَنَّ هذا الفعلَ يَتَعَدَّى بِالهمْزَةِ إِلَى اثْنَيْنِ. وَعَلى قراءَةِ أَبي بَكْرٍ يُحْتاجُ إِلى كَسْرِ التَنْوينِ مِنْ "رَدْمًا" لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ؛ لِأَنَّ هَمْزَةَ الوَصْلِ تَسْقُطُ دَرْجًا فَيُقْرَأَ لَهُ بِكَسْرِ التَنْوينِ مِنْ "ردْمًا"، وَبَعْدَهُ هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ هِي فاءُ الكلمةِ. وَإِذا ابْتُدِأَتْ بِكَلِمَتَيْ "ائْتُوني" في قِرَاءَتِهِ وَقِراءَةِ حَمْزَةَ تَبْدَأُ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ للوَصْلِ ثُمَّ ياءٍ صَريحَةٍ، هِيَ بَدَلٌ مِنْ هَمْزَةِ فاءِ الكَلِمَةِ، وَفي الدَّرْجِ تَسْقُطُ هَمْزَةُ الوَصْلِ، فَتَعُودُ الهَمْزَةُ لِزَوالِ مُوجِبِ إِبْدالِها. والباقونَ يَبْتَدِئونَ وَيَصِلُونَ بِهَمْزَةٍ مَفتوحةٍ لأَنَّها همزةُ قَطْعٍ، وَيَتْرِكونَ تَنْوينَ "رَدْمًا" عَلى حالِهِ مِنَ السُّكونِ، وَهَذا كُلُّهُ ظاهِرٌ لِأَهْلِ النَّحْوِ، خَفِيٌّ عَلى القُرَّاءِ.