وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} يُخْبِرُ الحقُّ ـ تَبَارَكَ وتَعَالى، عَنْ زَوَالِ الدُّنْيَا وَذَهَابِهَا ، وَذَهَابِ مَا عَلَيْهَا مِنْ زينةٍ تحدَّثتْ عنها الآيةُ السابقةُ فيقولُ: وإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَى الأَرْضِ كلَّهُ مِمَّا جَعَلْنَاهُ زِينَةً لَهَا، تُرابًا يابسًا قَاحِلًا مُجدِبًا بَلْقَعًا لا حَيَاةَ فيهِ وَلَا نَبَاتَ، بَعْدَ أَنْ كَانَ خَضِرًا نَضِرًا، مُبْهِجًا، تُسَرُّ بِهِ النُّفوسُ، وتَنَعَّمُ بِهِ العُيُونُ.
وَإِنَّما يكونُ ذَلِكَ عِنْدَمَا يَحِينُ الأَجَلُ. وَذَلِكَ هُوَ فَنَاءُ الْعَالَمِ، كما قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ إِبْرَاهِيم ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار} الآية: 48. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْله تَعَالى: "وَإِنَّا لجاعلون مَا عَلَيْهَا صَعِيدا جرزًا" قَالَ: يَهْلِكُ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا ويَبيدُ.
فَـ "جَاعِلُونَ" اسْمُ فَاعِلٍ مُرَادٌ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، أَيْ سَنَجْعَلُ مَا عَلَى الْأَرْضِ كُلَّهُ مَعْدُومًا. يُقالُ: جَرَزَتِ الْأَرْضُ بِقَحْطٍ، أَوْ جَرَادٍ، أَوْ نَحْوِهِ: إذا ذَهَبَ نَبَاتُهَا وَبَقِيَتْ جَرْدَاءَ لَا حياةَ فِيهَا، وَأَرْضُونَ أَجْرَازٌ، وَسَنَةٌ جُرْزٌ، وَسُنُونَ أَجْرَازٌ، أَيْ: لَا مَطَرَ فِيهَا، وَجُرُزُ الْأَرْضِ، الْجَرَادُ، يَأْكُلُ مَا علَيْهَا، وَامْرَأَةٌ جَرُوزٌ، أَكُولٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْعَجُوزَ خَبَّةٌ جُرُوزَا ............................ تَأْكُلُ كُلَّ لَيْلَةٍ قَفِيزَا
كما يُقَالُ: فلانٌ جَرَزَهُ الزَّمانُ، إذا اجْتَاحَهُ. وَ "أَرْضٌ جُرُزٌ"، وَجُرْزٌ، وجَرْزٌ، وجِرْزٌ: لا تُنْبِتُ، أَوْ أُكِلَ نَبَاتُها، أَوْ لَمْ يُصِبْها مَطَرٌ، وَقالوا في الأَمْثالِ: لا تَرْضَى شَانِئَةٌ إِلَّا بِجَرْزَةٍ. أَيْ بِالاسْتِئْصالِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "صَعِيدًا جرزًا" قَالَ: الصَّعِيدُ التُّرَابُ. والجُرُزُ هي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا فُرُوعٌ. قالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الصَّعِيدُ: المُسْتَوِي مِنَ الأَرْضِ. "غريبُ الحَديثِ" لِأَبي عُبَيْدٍ: (1/275). وقالَ أَبُو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: الصَّعِيدُ: الطَّريقُ الذي لا نَبَاتَ فِيهِ. "مَعاني القُرآنِ" للزَّجَّاجِ: (3/269). وَرويَ عَنِ المُفَضَّلِ الضَبِّيِّ مِثْلُ ذَلِكَ. وأَمَّا الجُرُزُ فَقَالَ الفَرَّاءُ: (الجُرُزُ) الأَرْضُ لَا نَبَاتَ فِيهَا، يُقَالُ: جُرِزَتِ الأَرْضُ فَهِيَ مَجْروزَةٌ، وَجَرَزَهَا الجَرَادُ، أَوِ النِّسَاءُ أَوِ الإِبِلُ: أَكَلَتْ مَا عَلَيْهَا. "مَعَاني القُرْآنِ" للفَرَّاءِ: (2/134). وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الجُرُزُ: الأَرْضُ التي لا تُنْبِتُ، كَأَنَّها تَأْكُلُ النَّبْتَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "جُرُزًا" قَالَ: يَعْنِي بالجُرُزِ الخَرَابَ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعالَى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "إِنَّا" هي "إِنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، و "نا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ َمبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "لَجاعِلُونَ" اللامُ المُزحلقةُ للتوكيدِ، (حَرْفُ ابْتِداءٍ) و "جاعِلُونَ" خَبَرُهُ مَرْفُوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "إِنَّ" الأُولَى في الآيةِ التي قبلَها. و "مَا" مَوْصُولَةٌ أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ مبنيَّةٌ على السكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ أَوَّلُ لِاسْمِ الفاعِلِ "جَاعِلونُ". و "عَلَيْها" على حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِصِلَةِ الاسمِ المَوْصولِ "مَا: أَوْ بِصِفَةٍ لَهَا إِنْ أُعربتْ نَكِرةً مَوْصوفةً، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "صَعِيدًا" مَفْعولٌ ثانٍ لَـ "جاعلونَ" مَنْصُوبٌ. و "جُرُزًا" صِفَةٌ لِـ "صَعِيدًا" منصوبةٌ مِثْلُهُ، لِأَنَّ الجَعْلَ هُنَا "تَصْيِيرٌ" لَيْسَ إِلَّا، واللهُ أَعْلَمُ.