فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا
(97)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أَيْ: فَمَا اسْتَطاعَ "يأْجوجُ ومأْجوجُ" اعْتِلاءَ ذَلِكَ السَّدَّ والارْتَقاءُ عَلَيْهِ، وَ "اسْطاعُوا" تَخْفِيفٌ لِـ "اسْتَطاعُوا"، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُما كَرَاهِيَةَ إِعَادَةِ الْكَلِمَةِ نَفْسِها، وَهوَ بابٌ مِنْ أَبوابِ الفَصَاحَةِ وَتَفَنُّنٌ فِي الْكَلَامِ، والظُّهورُ عَلَى الشَّيْءِ: اعْتِلاؤُهُ.
قولُهُ: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} النَّقْبُ: ثَقْبُ الرَّدْمِ، أَوْ كَسْرُهُ، وإِحْداثُ فَتْحَةٍ فِيهِ مِنْ قِبَلِ "يأْجوجَ ومأْجوجَ" للولوجِ مِنْها، والعَوْدَةِ إلى مهاجَمَةِ أُولَئِكَ القَوْمِ، وإِيقاعِ الأَذَى بِهِم. وَلكنَّهُمْ يَسْتَطيعُوا ذَلِكَ لِارْتِفَاعِهِ وَصَلَابَتِهِ.
قولُهُ تَعَالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} الفاءُ: حَرْفٌ للعَطْفِ، وهي هنا عاطفةٌ عَلى مَحْذوفٍ، والتَقْديرُ: فَبَعْدَ أَنْ أَنْهَى بِنَاءَهُ وَتَسْوِيَتَهُ، جَاءَ قَوْمُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يُحاوِلونَ تسَلُّقَهُ أَوْ ثَقْبَهُ فَمَا اسْطاعُوا إلى ذلك سبيلًا، وهذِهِ الجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "ما" نافِيَةٌ. و "اسْطَاعُوا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَمَاعةِ، وواوُ الجَمَاعةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. وَ "أَنْ" حَرْفٌ مَصْدريٌّ ناصِبٌ، وَ "يَظْهَرُوهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بـ "أنْ" وعلامةُ نَصْبِهِ حذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخمسَةِ. وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمفْعوليَّةِ، والجُمْلَةُ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ منصوبٍ عَلى المَفْعُولِيَّةِ، والتقديرُ: فَمَا اسْطاعوا ظُهورَهمْ إِيَّاهُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلى تِلْكَ الجملةِ المَحْذوفَةِ التي سَبَقَ تقديرُها على كونِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} الوَاوُ: عاطِفةٌ، و "مَا اسْتَطَاعُوا" مِثْلُ: "مَا اسْطَاعُوا" تَقَدَّمَ إِعْرَابُها. و "لَهُ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اسْتَطَاعُوا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "نَقْبًا" مَفْعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُملةِ قَوْلِهِ: "اسْطَاعُوا". عَلى كونِها لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأَ العامَّةُ: {فَمَا اسطاعوا} بتَخْفيفِ الطَّاءِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَطَلْحَةُ: "اسطَّاعُوا" بِتَشْديدِها، قالَ أَبو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: والوَجْهُ فِيها أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ إِلْقاءُ حَرَكَةِ التَّاءِ عَلَى السِّينِ لِئَلَّا يُحَرَّكَ مَا لَا يَتَحَرَّكَ ـ يَعْني أَنَّ سِينَ "اسْتَفْعَلَ" لا تَتَحَرَّكُ، أُدْغِمَ مَعَ السَّاكِنِ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ حَرْفَ لِينٍ. وَقَدْ قَرَأَ القُرَّاءُ غَيْرَ حَرْفٍ مِنْ هَذا النَّحْوِ. وأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ عَلَى ذَلِكَ قولَ الرَّاجِزِ يصِفُ ناقةً لَهُ:
كأَنَّهُ بَعْدَ كَلالِ الزَّاجِرِ ........................ ومَسْحِّ مَرُّ عُقُابٍ كَاسِرِ
يُرِيدُ: "ومَسْحِهِ" فأَخْفَى الْهَاءَ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: قَالَ سِيبَوَيْهِ كَلَامًا يُظَنُّ بِهِ فِي ظَاهِرِهِ أَنَّهُ أَدْغَمَ الْحَاءَ فِي الْهَاءِ بَعْدَ أَن قَلَبَ الْهَاءَ حَاءً فَصَارَتْ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِ ومَسْحّ، وَاسْتُدْرِكَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فقيلَ: إِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ إِدْغامُهُ (إخفاؤهُ) لِأَنَّ السِّينَ سَاكِنَةً وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ؛ فقد أخفى الحَاءَ فِي الهاءِ بَعْدَ أَنْ قَلَبَ الهاءَ حاءً، وَهوَ عَكْسُ قاعِدَةِ الإِدْغامِ فِي المُتَقارِبَيْنَ. ورَدَّهُ عَلَيْهِ أَصْحابُهُ وَزَعَمُوا أَنَّهُ غَيْرُ سائغٍ في اللَّفْظِ، وَأَنَّ الشِّعْرَ لَا يُجْمَعُ فِي حَشْوِهِ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ. وَقد لَحَّنَ بَعْضُ النُّحاةِ هَذِهِ القِراءَةَ. فقالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ قَرَأَ بِذَلِكَ فهُوَ لاحِنٌ مُخْطِئٌ. وقالَ أَبو عَلِيٍّ الفارسيُّ: هِيَ غَيْرُ جائزِةٍ.
قرأَ العامَّةُ: {اسْطاعوا} وَقَرَأَ الأَعْشى، عَنْ أَبي بَكْرٍ "اصْطاعُوا" بإبْدالِ السِّينِ صادًا. وقَرَأَ الأَعْمَشُ "اسْتَطاعُوا" كالثانِيَةِ.
وَفي "اسْتَطاعَ" لُغَةٌ ثالثةٌ وَهيَ قولهم في يَسْتَطيعُ: "يَسْتِيعُ"، وهذَا فيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أُبْدِلَ الطَّاءُ بالتَّاءَ لِقُرْبِهَا مِنَ الحَرْفِ الذي قَبْلَهَا لِتُوَافِقَ السِّينَ في الهَمْسِ، كَمَا أُبْدِلَ الدالُ بالتاءِ في نَحْوِ: "ازدان" فقيلَ: "ازْتانَ" لِيُوافِقَ مَا قَبْلَهُ في الجَهْرِ.