قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ} الْمُؤَاخَذَةُ: مِنَ الْأَخْذِ، وَهِيَ هُنَا "مُفَاعَلَةٌ" لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهَا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ} الآيةَ: 61.
فَقَدِ اعْتَذَرَ مُوسَى للخَضِرِ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، بِأَنَّه نَسْيَ الْتِزَامَهُ بِمَا غَشِيَ ذِهْنَهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَا يُنْكِرُهُ، أَيْ لَا تُؤَاخِذْنِي بِنِسْيَانِي، فإنَّ "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ هُنَا. وَطَلَبُ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ، مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي التَّعَطُّفِ وَالْتِمَاسِ العَفْوِ، ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يُؤَاخِذُهُ عَلَى نِسْيَانِهِ هَذَا مُؤَاخَذَةَ مَنْ لَا يَصْلُحُ بَعْدَها لِمُصَاحَبَتِهِ، لِمَا قَدْ يَنْشَأُ عَنِ مِثْلِ هَذا النِّسْيَانِ مِنْ خَطَرٍ، فَالْحَزْمُ الِاحْتِرَازُ مِنْ صُحْبَةِ مَنْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ، ومَعْنَى "نَسِيتُ" غَفَلْتُ عَنِ التَسْلِيمِ لَكَ، وَتَرْكِ الإِنْكارِ عَلَيْكَ، وَنَسِيتُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: "بِمَا نَسِيتُ" أَيْ: بِمَا تَرَكْتُ مِنْ عَهْدِكَ. جامِعُ البَيَانِ للطَّبريِّ: (15/285)، وقالَ الكَلْبِيُّ: "بِمَا نَسِيتُ" أَيْ: بِمَا تَرَكْتُ مِنْ وَصِيَّتِكَ. جَامِعُ البَيَانِ للطَّبريِّ: (15/285)، والكَشَّافُ للزَّمخشَرِيِّ: (2/493). وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ الله عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَنْسَهَا وَلَكِنَّهَا مِنْ مَعَاريضِ الكَلامِ. جامِعَ البَيَانِ للطَبَرِيِّ: (15/285)، ورويَ مِثْلُهُ عنْ أَبي عَمْرِو بْنِ العلاءِ. وعَلَى هَذَا فَالنِسْيَانُ هُنَا بِمَعْنَى: التَرْكِ، ولَيسَ بِمَعني الغَفْلَةِ. وَلِذَلِكَ بُنِيَ كَلَامُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَلَى طَلَبِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْيَانِ، وَلَمْ يُبْنَ عَلَى الِاعْتِذَارِ بِسَبَبِ النِّسْيَانِ، كَأَنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ مَحْقُوقًا بِالْمُؤَاخَذَةِ، فَكَانَ كَلَامُهُ فِي الِاعْتِذَارِ وطَلَبِ العَفْوِ بَدِيعَ النَّسِيجِ.
قوْلُهُ: {وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} قالَ ابْنُ عَبَاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي رِوَايَةِ عَطاءٍ: "وَلا تُرْهِقْنِي" أَيْ: "وَلَا تَلْحَقْنِي". يقالُ للمَرْءِ إِذَا غَشِيَهُ الإرْهَاقُ وَلَحِقَ بِهِ، فَـ "لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا " أَيْ: لَا تُغْشِنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا. والْإِرْهَاقُ: مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْمُعَامَلَةِ وَالْمُقَابَلَةِ، وهوَ مِنْ رَهَقَ المُعَدَّى لِمَفْعُولٍ. وَرُوِيَ عَنِ الفَرَّاءِ قولُهُ: (رَهِقَني الرَّجُلُ، يَرْهَقُني، رَهَقًا، أَيْ: لَحِقَني وغَشِيَني، وأَرْهَقْتُهُ إِذَا أَرْهَقَتَهُ غَيْرَكَ). وقالَ الزَّجاجُ أَبُو إِسْحاق في (مَعَاني القُرْآنِ) لَهُ: (3/302): مَعْنَى "تُرْهقِني" تُغْشِيني. ونَحْوَ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ في (غَريبُ القُرْآنِ) لَهُ: (1/269)، وَهوَ قَوْلُ عَامَّةِ المُفسِرينَ. وَيَغْشَنِي ويَلْحَقُني بِمَعْنًى، وَمَنْ لَحِقَ شَيْئًا فَقَدْ غَشِيَهُ. وَقَالَ الكَلْبِيُّ: وَ "لَا تُرْهِقْني" و "لا تُكَلِّفْنِي" ومثلُهُ روِيَ عَنْ أَبي زَيْدٍ. وَالمُرادُ بِـ "أَمْرِي" هُنَا: شَأْني، فالأَمْرُ: الشَّأْنُ. وَيَجُوزُ فِي "مِنْ" أَنْ تَكُونَ ابْتِدَائِيَّةً هُنَا، فَكَوْنُ الْمُرَادِ بِأَمْرِهِ نِسْيَانَهُ، أَيْ: لَا تَجْعَلْ نِسْيَانِي مُنْشِئًا لِإِرْهَاقِي عُسْرًا. وَيَجُوزُ أَيضًا أَنْ تَكُونَ "مِنْ" بَيَانِيَّةً فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِـ "أَمْرِهِ" شَأْنَهُ مَعَهُ، أَيْ لَا تَجْعَلْ شَأْنِي إِرْهَاقَكَ إيَّايَ عُسْرًا. وَالْعُسْرُ: هُوَ ضِدُّ الْيُسْرِ، أَيْ: الشِدَّةُ. وَالمُرادُ بالعُسْرِ هُنَا: عُسْرُ الْمُعَامَلَةِ، أَيْ: الْمُعَامَلَةُ بِالشِّدَّةِ، فَهُوَ مَجَازٌ في عَدَمِ التَّسَامُحِ مَعَهُ فِيمَا فَعَلَهُ، فَسَيِّدُنَا مُوسَى يَسْأَلُ الخَضِرَ ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، الْإِغْضَاءَ عَنْ فَعْلَتِهِ، وَالصَّفْحَ والتجاوزَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنيٌّ عَلى الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعودُ عَلَى موسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ الفعليَةُ هذِهِ مُسْتَأْنفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ. و "لا" ناهِيَةٌ جَازِمَةٌ و "تُؤاخِذْنِي" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لا" الناهِيَةِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى الخَضِرِ ـ عليْهِ السَّلامُ، والنُّونُ للوِقايَةِ، والياءُ: ضميرُ المتكلِّمِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ أَوَّلُ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قالَ". و "بِما" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "تُؤاخِذْنِي"، و "ما" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ. وَ "نَسِيتُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وهيَ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَةِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَةُ هَذِهِ صِلَةُ "مَا" المَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، والعائدُ محذوفٌ، أَوْ صِلَتُها إِنْ كانتْ مَصْدَرِيَّةً، وهيَ مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٌ بِالباءِ، والتَقْديرُ: بِنِسْيَانِي أَوْ بِالذي نَسيتُهُ، أَوْ بِشَيْءٍ، نَسيتُهُ.
قَوْلُهُ: {وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "لا تُرْهِقْنِي" مثلُ: "لا تُؤاخِذْنِي" والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى الجملةِ كونها في محلِّ النَصْبِ بـ "قال". و "مِنْ" حرفُ جرٍّ متعلِقٌ بحالٍ مِنْ "عُسْرًا"، و "أَمْرِي" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جرِّهِ كسرةٌ مقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِها عَلَى اليَاءِ. و "عُسْرًا" منصوبٌ على أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ ثَانٍ.