وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} هوَ أَمْرٌ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، لنَبِيِّهِ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَذْكُرَ لأُولِئَكَ المُتَكَبَّرينَ الذينَ أَنِفُوا مِنْ مُجالِسَةِ فُقَراءِ المُسْلمينَ، أَمَرَهُ أَنْ يذكُرَ لِهَؤُلاءِ قِصَّةَ إِبْلِيسَ ـ لَعَنَهُ اللهُ تَعَالَى، وَمَا أَوْرَثَهُ إيَّاهُ تَكَبُّرُهُ مِنْ غَضَبِ اللهِ عَلَيْهِ.
ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ـ تَعَالَى، قَدْ أَمَرَ مَلائِكَتَهُ أنْ يَسْجُدوا لآدَمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، أَمْرًا مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ تَنْجِيزًا بَعْدَ وُجُودِ آدَمَ، فَقَدْ بيَّنَ ـ جَلَّ وَعَلَا، أَنَّ أَصْلَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى خَلْقِ آدَمَ مُعَلَّقٌ عَلَيْهِ، فقَالَ فِي الآيَتَيْنِ: (28 و 29) مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}، وَقَالَ فِي الآيتيْنِ: (71 و 72) مِنْ سُورةِ (ص): {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}. وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّهُ جَدَّدَ الْأَمْرَ لَهُمُ بِالسُّجُودِ لَهُ تَنْجِيزًا بَعْدَ أَنْ خلَقَهُ.
قوْلُهُ: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} يُحْتَمَلُ هُنَا أَنْ يَكُونُوا سَجَدُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ، ولَكِنْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَكَّدَ أَنَّهُمْ سَجَدُوا كُلُّهُمْ، فَقَال في الآيةِ: 30، مِنْ سُورةِ الحِجْرِ، والآيةِ: 73، منْ سُورةِ (ص): {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}. وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} لقد تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فِي "مَسْلَكِ النَّصِّ"، وَفِي "مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ"، أَنَّ الْفَاءَ مِنَ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ، ولذلكَ فإِنَّ الظاهِرَ هُنَا أَنَّ سَبَبَ فِسْقِهِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، هُوَ أَنْهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، وَهَذا كَقَوْلِكَ: سَرَقَ فلانٌ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، أَيْ: قُطِعتْ يدُهُ بِسَبَبِ سَرِقَتِهِ. وَكقولِكَ أَيْضًا: سَهَا فلانٌ فَسَجَدَ، أَيْ: سجَدَ بِسَبَبِ سَهْوِهِ في صلاتِهِ لِجَبْرِ ما حدَثَ مِنْ نقصٍ فيها، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وقَوْلُهُ تَعَالَى في الآيةِ: 38، مِنْ سُورَةِ المائدَةِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} هُوَ مِنْ هَذا القَبِيلِ، أَيْ: بِسَبَبِ سَرِقَتِهِمَا. فَقَوْلُهُ هُنَا: "كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ"، هوَ كذَلِكَ أَيْ: لِعِلَّةِ كَيْنُونَتِهِ مِنَ الْجِنِّ، لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُمُ امْتَثَلُوا أَمْرَ ربِّهم وَعَصَاهُ هُوَ، وَلِذلِكَ ذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ إِبْلِيسَ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْأَصْلِ بَلْ هو مِنَ الْجِنِّ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَعَبَّدُ مَعَهُمْ، فَعُدَّ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ كانَ تَبَعًا لَهُمْ، كَما يُطْلَقُ اسْمُ الْقَبِيلَةِ عَلَى حَلِيفِها المُوَالي لَهَا. وَقِيلَ إِنَّ إِبْلِيسَ كانَ فِي الْأَصْلِ مَلَكًا فَمَسَخَهُ اللهُ شَيْطَانًا. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَبيلَةٌ يُقَال لَهُم الْجِنُّ، فَكَانَ إِبْلِيس مِنْهُم، وَكَانَ يُوَسْوِسُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَعَصَى، فَسَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ، فَمَسَخَهُ اللهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا. وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (يُريدُ أَنَّ مَلائكَةَ السَّمَاءِ الدُنْيا يَقُالُ لَهُمُ: الجِنُّ). جَامِعُ البَيَانِ فِي تَأْويلِ القُرْآنِ للطَّبَري: (15/259)، و "زَاد المَسيرِ في عُلومِ التفسيرِ لابْنِ الجَوْزي": (5/153)، مِثلُ قَوْلِهِ منْ سُورةِ الصافَّات: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} الآيةَ: 158، يَعْنِي حِينَ قَالوا: الملائكةُ بَنَاتُ اللهِ. وَكانَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهِما، يَقُولُ: (لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ المَلائِكَةِ لَمْ يُؤْمَرْ بِالسُّجودِ) جَامِعُ البَيَانِ فِي تَأْويلِ القُرْآنِ للطَّبَري: (15/260)، ورَوَى سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهِما، قالَ: (كانَ مِنْ قَبيلٍ مِنَ المَلائِكَةِ يُقَالُ لَهُمْ: الجِنُّ)، جَامِعُ البَيَانِ فِي تَأْويلِ القُرْآنِ للطَّبَري: (15/260)، وقالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَب: (كانَ إِبْلِيسُ مِنَ الجِنِّ الذين ظَفِرَ بِهِمُ المَلائِكَةُ)، جَامِعُ البَيَانِ فِي تَأْويلِ القُرْآنِ للطَّبَري: (15/260)، والدُّرُّ المَنْثُورُ في التَفْسيرِ بِالمَأْثور لِجَلالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ": (4/413)، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: إِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ أَشْرَفِ الْمَلَائِكَةِ وَأَكْرَمِهِمْ قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا عَلى الْجِنَانِ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَان السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ لَهُ مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ، بَحْرُ الرُّومِ وَفَارِسٍ، أَحَدُهُمَا قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ قِبَلَ الْمَغْرِبِ، وَسُلْطانُ الأَرْضِ، وَكَانَ مِمَّا سَوَّلَتْ لهُ نَفْسُهُ مَعَ قَضَاءِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَرَى أَنَّ لَهُ بِذَلِكَ عَظَمَةً وَشَرَفًا عَلى أَهْلِ السَّمَاءِ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ كِبْرٌ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ، فَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ لآدَمَ حِينَ أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَسْجُدَ لآدَمَ، اسْتَخْرَجَ اللهُ كِبْرَهُ عِنْدَ السُّجُودِ، فَلَعَنَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: "كَانَ من الْجِنِّ"، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: إِنَّمَا سُمِّيَ بالجَانِّ لِأَنَّهُ كَانَ خَازِنًا عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلٍهٍ تَعَالَى: "إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ"، قَالَ: كَانَ مِنْ قَبِيلٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، وَكَانَ ابْن عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَم يُؤْمَرْ بِالسُّجُودِ، وَكَانَ عَلَى خِزَانَةِ السَّمَاء الدُّنْيَا.
وَقَالَ الحَسَنُ البصْريُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (مَا كانَ إِبْلِيسُ مِنَ المَلائكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الجِنِّ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصْلَ الإِنْسِ) أخرج ابْنُ جَريرٍ الطَّبَريّ في جَامِعُ البَيَانِ فِي تَأْويلِ القُرْآنِ لهُ: (15/260)، وَابْنُ الْأَنْبَارِي فِي كِتَابِ الأَضْدَادِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِهُ أيضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَاتَلَ اللهُ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: "كَانَ مِنَ الْجِنِّ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "كَانَ من الْجِنّ" قَالَ: مِنْ خَزَنَةِ الْجِنَانِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الأَضْدَادِ، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "كَانَ مِنَ الْجِنِّ" قَالَ: هُمْ حَيٌّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَزَالُوا يَصُوغُونَ حِلِيَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى تَقُومُ السَّاعَةُ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيمانِ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "كَانَ مِنَ الْجِنِّ" قَالَ: مِنَ الجَنَّانِينَ الَّذينَ يعْملُونَ فِي الْجَنَّةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ" قَالَ: إِبْلِيسُ أَبُو الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَبُو الْإِنْسِ، وآدَمُ مِنَ الْإِنْسِ، وَهُوَ أَبُوهُمْ، وَإِبْلِيسُ مِنَ الْجِنِّ، وَهُوَ أَبُوهُمْ، وَقَدْ تَبَيَّنَ للنَّاسِ ذَلِكَ حِينَ قَالَ اللهُ تعالى: "أَفَتَتَّخِذونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُوني".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي السَمَاءِ الدُّنْيَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ سَعْيدِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُقَاتِلُ الْجِنَّ، فَسُبِيَ إِبْلِيسُ، وَكَانَ صَغِيرًا، فَكَانَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فَتَعَبَّدَ مَعَهَا.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا لُعِنَ إِبْلِيسُ تَغَيَّرَتْ صُورَتُهُ عَنْ صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَجَزِعَ لِذَلِكَ، فَرَنَّ رَنَّةً، فَكُلُّ رَنَّةٍ فِي الدُّنْيَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ رَنَّتِهِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ" قَالَ: أُجِنَّ مِنْ طَاعَةِ اللهِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ نَوْفٍ، قَالَ كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ سَمَاءِ الدُّنْيَا.
والأَوَّلُ هُوَ المَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْلَهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا عَصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ مِنِ ارْتِكَابِ الْكُفْرِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ إِبْلِيسُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ في الآيةِ: 66، مِنْ سُورةِ الأَنْعَام: {لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الأَنبياء: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الآية: 27، وَقيلَ: إِنَّ اللهَ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ، وَالْجِنُّ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ. وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَلَكٌ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ كَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الحِجْرِ: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} الآيَتَانِ: (30 و 31)، فَإِخْرَاجُهُ مِنْ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَالظَّوَاهِرُ إِذَا كَثُرَتْ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ لَا الِانْقِطَاعُ، وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ خَالَفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "كَانَ مِنَ الْجِنِّ"، لِأَنَّ الْجِنَّ قَبِيلَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، خُلِقُوا مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ نَارِ السَّمُومِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَالْعَرَبُ تَعْرِفُ فِي لُغَتِهَا إِطْلَاقَ اسْمِ "الْجِنِّ" عَلَى الْمَلَائِكَةِ الكِرامِ، وَمِنْ ذَلكَ قَوْلُ الشاعِرِ أَعْشَى بني تَمِيمٍ فِي سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ:
وَسُخِّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةٌ ............. قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ
وَمِنْ إِطْلَاقِ الْجِنِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الصافَّات: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} الآية: 158، وذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ قَوْلُهُمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا!.
وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ مَلَاكًا لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تعالى: "إِلَّا إِبْلِيسَ"، وَهُوَ ما رَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: مِنْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ كَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلُ كُلُّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا. وَالأَظْهَرُ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَلَكٍ. لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: "إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ"، هُوَ الأَظْهَرُ في نُصُوصِ الْوَحْيِ فِي هذا الْمَوْضُوعِ، وَاللهُ أَعْلَم.
قَوْلُهُ: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أَيْ: فَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ أَمْرِ رَبِّهِ، فإِنَّ الْمَعْنَى: فَفَسَقَ بِسَبَبِ أَمْرِ رَبِّهِ حَيْثُ لَمْ يَمْتَثِلْهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ جَلَّ وَعَلَا: "فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ" قَالَ: فِي السُّجُودِ لِآدَمَ. وَأَصْلُ الْفِسْقِ فِي اللُّغَةِ عندَ العَرَبِ: الْخُرُوجُ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ:
يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرًا ................ فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا
وَهَذَا مَعْنًى ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا حَاجَةَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ "عَنْ" هُنَا سَبَبِيَّةٌ، كَما هيَ في قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} الآيةَ: 53، أَيْ: بِسَبَبِ قَوْلِكَ.
قَوْلُهُ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} الْهَمْزَةُ هنا لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِبْعَادِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ مِرَارًا. أَيْ: أَبْعَدُ مَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ، وَشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ لَكُمْ وَلِأَبَوَيْكُمْ آدَمَ وَحَوَّاءَ تَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ خَالِقِكُمْ ـ جَلَّ وَعَلَا، وَقَوْلُهُ هنا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: "وَذُرِّيَّتَهُ"، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلشَّيْطَانِ ذُرِّيَّةً. ومَنِ ادَّعَى أَنَّ الشيطانَ لَا ذُرِّيَّةَ لَهُ فقولُهُ مُنَاقِضٌ لهَذِهِ الْآيَةِ الكَريمَةِ مُنَاقَضَةً صَرِيحَةً كَمَا هوَ واضِحٌ. وَكُلُّ مَا نَاقَضَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ! وَلَا دَلِيلَ في نَصٍّ صريحٍ عَلَى طَرِيقَةُ وُجُودِ نَسْلِهِ هَلْ هِيَ عَنْ تَزْوِيجٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ الإمامُ الشَّعْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: سَأَلَنِي الرَّجُلُ: هَلْ لِإِبْلِيسَ زَوْجَةٌ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ عُرْسٌ لَمْ أَشْهَدْهُ ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى: "أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي"، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَا تَكُونُ ذُرِّيَّةٌ إِلَّا مِنْ زَوْجَةٍ، فَقُلْتُ: نَعَمْ.
وَمَا فَهِمَهُ الشَّعْبِيُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ الذَّرِّيَّةَ تَسْتَلْزِمُ الزَّوْجَةَ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَفَتَتَّخِذونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ" قَالَ: وَلَدُ إِبْلِيسَ خَمْسَةٌ: ثَبرُ وَالأَعْوَرُ وزَلْنَبُورُ وَمُسَوِّطُ ودَاسِمٌ، فَمُسَوِّطُ صَاحِبُ الصَّخَبِ، والأَعْوَرُ وَداسِمٌ لَا أَدْرِي مَا يفْعَلَانِ، وثَبْرٌ صَاحِبُ المَصَائِبِ، وزَلَنْبُورُ هو الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُبَصِّرُ الرَّجُلَ عُيُوبَ أَهلِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَفَتَتَّخِذونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ" قَالَ: باضَ إِبْلِيسُ خَمْسَ بَيْضَاتٍ: زَلَنْبُورُ وداسِمٌ وَثَبرٌ وَمُسَوِّطٌ والأَعْوَرُ، فَأَمَّا الْأَعْوَرُ فَصَاحِبُ الزِّنَا، وَأَمَّا ثَبَرُ فَصَاحِبُ المَصَائِبِ، وَأَمَّا مُسَوِّطٌ فَصَاحِبُ أَخْبَارِ الْكَذِبِ، يُلْقِيهَا عَلى أَفْوَاهِ النَّاسِ، وَلَا يَجِدُونَ لَهَا أَصْلًا، وَأَمَّا دَاسِمٌ فَهُوَ صَاحِبُ الْبيُوتِ، إِذا دَخَلَ بَيْتَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ دَخَلَ مَعَهُ، وَإِذا أَكَلَ أكَلَ مَعَهُ، وَيُريهِ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ مَا لَا يُحْصَى مَوْضِعُهُ، وَأَمَّا زَلَنْبُورُ فَهُوَ صَاحِبُ الْأَسْوَاقِ، وَيَضَعُ رَأْسَهُ فِي كُلِّ سُوقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: باضَ إِبْلِيسُ خَمْسَ بَيْضَاتٍ: وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلى مُؤْمِنٍ وَاحِدٍ أَكْثَرُ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "أَفَتَتَّخِذونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ" قَالَ: هُمْ أَوْلَادَهُ، يَتَوَالَدُونَ كَمَا يَتَوَالَدُ بَنُو آدَمَ، وَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ كَيْفِيَّةَ وُجُودِ النَّسْلِ مِنْهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِ نَفْسِهِ فَبَاضَ خَمْسَ بَيْضَاتٍ: قَالَ: فَهَذَا أَصْلُ ذُرِّيَّتِهِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ لَهُ فِي فَخْذِهِ الْيُمْنَى ذَكَرًا، وَفِي الْيُسْرَى فَرْجًا، فَهُوَ يَنْكِحُ هَذَا بِهَذَا فَيَخْرُجُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ عَشْرُ بَيْضَاتٍ، يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ بَيْضَةٍ سَبْعُونَ شَيْطَانًا وَشَيْطَانَةً، وَلَا يَخْفَى أَنْ لَا مُعَوَّلَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَنَحْوَهَا لِعَدَمِ وُجودِ دَلِيلٍ عليها مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةَ. فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ لَهُ ذُرِّيَّةً وحَسْبُ. أَمَّا كَيْفِيَّةُ وِلَادَةِ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَقْلٌ صَحِيحٌ، وَمِثْلُهُ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قُلْتُ: الَّذِي ثَبَتَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرَهُ الْحِمْيَرِيُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْبَرْقَانِيِّ: أَنَّهُ خَرَّجَ فِي كِتَابِهِ مُسْنَدًا عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْحَافِظِ، مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ الفارسيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَكُنْ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، فِيهَا بَاضَ الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ)). أَخْرَجَهُ الخطيبُ البَغْدَادِيُّ: (12/426). والطَبَرانِيُّ: (6/248، برقم: 6118). قالَ ابْنُ حَجَرٍ الهَيْثَمِيُّ: (4/77): فِيهِ القاسِمُ يَزيدٌ فَإنْ كانَ هوَ الجُرْميُّ فهُوَ ثِقَةٌ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ رِجالُ الصَّحِيحِ. وهَذَا الْحَدِيثُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبِيضُ وَيُفَرِّخُ، وَلَكِنْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ. هَلْ هِيَ مِنْ أُنْثَى هِيَ زَوْجَةٌ لَهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ. مَعَ أَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا تَخْلُو مِنِ احْتِمَالٍ، لِأَنَّهُ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ بَاضَ وَفَرَّخَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ، فَيَحْتَمِلُ مَعْنَى بَاضَ وَفَرَّخَ أَنَّهُ فَعَلَ بِهَا مَا شَاءَ مِنْ إِضْلَالٍ وَإِغْوَاءٍ وَوَسْوَسَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ، لِأَنَّ الْأَمْثَالَ لَا تُغَيَّرُ أَلْفَاظُهَا، وَمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ تَعْيِينِ أَسْمَاءِ أَوْلَادِهِ وَوَظَائِفِهِمُ الَّتِي قَلَّدَهُمْ إِيَّاهَا، كَقَوْلِهِ: زَلَنْبُورُ صَاحِبُ الْأَسْوَاقِ، وَتِبْرٌ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ يَأْمُرُ بِضَرْبِ الْوُجُوهِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَعْوَرُ صَاحِبُ أَبْوَابِ الزِّنَا. وَمِسْوَطٌ صَاحِبُ الْأَخْبَارِ يُلْقِيهَا فِي أَفْوَاهِ النَّاسِ فَلَا يَجِدُونَ لَهَا أَصْلًا. وَدَاسِمٌ هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلَمْ يُسَلِّمْ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ بَصَرَهُ مَا لَمْ يَرْفَعْ مِنَ الْمَتَاعِ وَمَا لَمْ يُحْسِنْ مَوْضِعَهُ يُثِيرُ شَرَّهُ عَلَى أَهْلِهِ، وَإِذَا أَكَلَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ أَكَلَ مَعَهُ. وَالْوَلْهَانُ صَاحِبُ الْمَزَامِيرِ وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى إِبْلِيسُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَعْيِينِ أَسْمَائِهِمْ وَوَظَائِفِهِمْ كُلُّهُ لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ، إِلَّا مَا ثَبَتَ مِنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِمَّا ثَبَتَ عَنْهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ تَعْيِينِ وَظِيفَةِ الشَّيْطَانِ وَاسْمِهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـ رَحِمَهُ اللهُ، فِي صَحِيحِهِ: (4/1728 ـ 1729، بِرَقَمْ: 2203) عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ!! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبُ. فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا)) قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي. وَتَحْرِيشُ الشَّيْطَانِ بَيْنَ النَّاسِ وَكَوْنُ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ سَرَايَا فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: "وَذُرِّيَّتَهُ" ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْمُوَسْوِسِينَ مِنَ الشَّيَاطِينِ، الَّذِينَ يَأْتُونَ بِالْمُنْكَرِ، وَيَحْمِلُونَ عَلَى الْبَاطِلِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلشَّيْطَانِ ذُرِّيَّةً مِنْ صُلْبِهِ.
قولُهُ: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا مِنَ اللهِ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "بِئْسَ للظَّالِمينَ بَدَلًا" قَالَ بئْسَمَا اسْتَبْدَلُوا بِعبَادَةِ رَبِّهمْ إِذْ أَطَاعُوا إِبْلِيسَ ـ لَعَنَهُ اللهُ تَعَالَى.
وَقَالَ لِلظَّالِمِينَ، لِأَنَّهُمُ اعْتَاضُوا الْبَاطِلَ مِنَ الْحَقِّ، وَجَعَلُوا مَكَانَ وَلَايَتِهِمْ للهِ وَلَايَتَهُمْ لِإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَشْنَعِ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ فِي اللُّغَةِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، وَتَقْدِيرُهُ: بِئْسَ الْبَدَلُ مِنَ اللهِ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ. وَالْبَدَلُ: هو الْعِوَضُ مِنَ الشَّيْءِ، وَمَا ذَكَرَهُ اللهُ ـ جَلَّ وَعَلَا، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِبَنِي آدَمَ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنَ القرآنِ الكريمِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى منْ سُورةِ: طَهَ: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} الآيةَ: 117، وكقولِهِ تعالى في الآيةَ: 6، منْ سُورةِ فَاطِر: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}. وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنْ يَحْسَبَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ بَدَلًا مِنْ وَلَايَةِ اللهِ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى حَقٍّ، بلْ في ضلالٍ وخُسْرانٍ مُبِينٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى من سورةِ الأعرافِ: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} الآية: 30، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الْكُفَّارَ هم أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 76، مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ البقرةِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} الآية: 257، وَقَوْلِهِ منْ سورةِ آلِ عمرانَ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الآية: 175، وَكقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الأَعْرَافِ: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية: 27، إِلَى غَيْرِها مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} الواوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، و "إِذْ" اسمُ ظَرْفيٌّ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على أَنَّهُ مَفْعولٌ بِهِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ والتَقْديرُ: وَاذْكُرْ إِذْ قُلْنَا، وَالجُمْلةُ المَحْذُوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَ "قُلْنا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعَظَّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، و "نَا" التعظيمِ هذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. و "لِلْمَلائِكَةِ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قلنا"، و "الملائكةِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجرِّ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإضافةِ "إذ" إِلَيْها.
قولُهُ {اسْجُدُوا لِآدَمَ} اسْجُدُوا: فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ النُّونِ لأَنَّ مُضارعَهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتفريقِ. و "لِآدَمَ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقُ بِـ "اسْجُدُوا"، و "آدَمَ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جرِّهِ الفتحةُ نيابةً عنِ الكَسْرَةِ لأَنَّهُ ممنوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بالعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قُلْنا".
قوْلُهُ: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} الفاءُ: للعَطْفِ والتعقيبِ، و "سَجَدُوا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِليَّةِ، والجملةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ عَطْفًا عَلَى حملةِ "قُلْنا". و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ، أَوْ مُنْقَطِعٍ. و "إِبْلِيسَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الاسْتِثْنَاءِ، مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بالعَلَمِيَّةِ والعُجْمَيةِ ولذلكَ لَمْ يُنَوَّنْ.
قوْلُهُ: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} كَانَ: فِعْلٌ ماضٍ نَاقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، واسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "إِبْلِيسَ" ـ لَعَنَهُ اللهُ. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِخِبَرِ "كان"، و "الْجِنِّ" مجرورٌ بحَرْفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بيانِيًّا مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ عِلَّةِ اسْتِثْنَاءِ "إِبْلِيسَ" ـ أَخْزاهُ اللهُ تَعَالى، مِنَ السَّاجِدينَ لآدَمَ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَليسَ لَهَا مَحَلَّ مِنَ الإعْرابِ. وقالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: هيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، و "قد" مَعَهَا مُرَادَةٌ. وَلَيْسَ بِجَلِيٍّ.
قولُهُ: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} الفاءُ: للعَطْفِ والتَّعْقيبِ، والسَّبَبِيَّةُ ظاهِرَةٌ فيها، فقد تَسَبَّبَ الفِسْقُ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الجِنِّ. وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ: إِنَّمَا أَدْخَلَ الفاءَ هُنَا لِأَنَّ المَعْنَى: إِلَّا إِبْلِيسَ امْتَنَعَ منَ السُّجودِ فَفَسَقَ. قالَ السَّمِينُ الحَلَبِيُّ: إِنْ عَنَى أَنَّ قَوْلَهَ "كَانَ مِنَ الجِنِّ" وُضِعَ مَوْضِعَ قَوْلِهِ "امْتَنَعَ" فَيُحْتَمَلُ مَعَ بُعْدِهِ، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ حُذِفَ فِعْلٌ عُطِفَ عَلَيْهِ هَذَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ للاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ. وَ "فَسَقَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحَ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "إِبْلِيسَ". و "عَنْ" حَرْفُ جَرٍّ عَلَى بابِهِ مِنَ المُجاوزَةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "فَسَقَ"، أَيْ: خَرَجَ مُجَاوِزًا أَمْرَ رَبِّهِ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الباءِ، أَيْ: بِسَبَبِ أَمْرِهِ، فإِنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، فَعَّالٌ لِما يُريدُ، وَ "أَمْرِ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، و "رَبِّهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ أيضًا. وهذهِ الجُمْلَةُ الفعليَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "كَانَ" الاسْمِيَةِ عَلى كَوْنِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ
قولُهُ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهَامِ الإِنْكارِيِّ التَعَجُّبِيِّ، داخَلَةٌ عَلَى مَحْذوفٍ، وَالفاءُ: للعَطْفِ والتعقيبِ عَلَى ذَلِكَ المَحْذوفِ. و "تَتَّخِذونَهْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِليَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على كونِهِا مَفْعُولَهَ الأَوَّلَ، و "وَذُرِّيَّتَهُ" الواوُ: للعَطْفِ، أَوْ للمَعِيَّةِ، وَ "ذُرِّيَّتَهُ" مَعْطُوفٌ عَلى ضَمِيرِ المَفْعُولِ الأَوَّلِ فهوَ مَنْصُوبٌ مِثلُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَنْصوبًا عَلى أَنَّهُ مفْعُولٌ مَعَهُ، والتقديرُ: أَفَتتَّخِذونَهَ معَ ذرِّيَّتِهِ، و "أَوْلِياءَ" مَفْعولٌ بِهِ ثانٍ لِـ "اتَّخَذَ" منصوبٌ بِهِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "أَوْلِياءَ"، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِـ "تَتَّخِذونَهُ"، و "دُونِي" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِليْهِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذَهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى تَلِكَ الجُمْلَةِ المَحذوفَةِ، وَالتَقْدير: أَبَعْدَ مَا عَرَفْتُمْ فِسْقَهُ عَنْ أَمْرِ رَبَّهَ تَتَّبِعُونَهُ، فَتَتَّخِذونَهُ، وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُوني، وَالجُمْلَةُ المَحذوفةُ هِيَ جُمْلَةٌ إِنْشائِيَّةٌ، فليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} الواوُ: حالِيَةٌ، وَ "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِدَاءِ. و "لَكُمْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "عَدُوٌّ" لِأَنَّهُ صِفَةٌ عَلَى زِنَةِ المَصَادِرِ كَ "الْقَبُولِ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والمِيمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "عَدُوٌّ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحالِ مِنْ مَفْعُولِ "تَتَّخِذونَهُ"، أَوْ مِنْ فاعِلِهِ، لِأَنَّ فِيها مُصَحِّحًا لِكِلٍ مِنَ الوَجْهَيْنِ، وَهُوَ الرَّابِطُ.
قوْلُهُ: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} بِئْسَ: فِعْلٌ مَاضٍ جامِدٌ لإِنْشاءِ الذَّمِّ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوبًا مُفَسَّرٌ بِنَكِرَةٍ مَذْكُورَةٍ بَعْدَهُ، تَمْييزًا لَهُ. والمَخْصُوصُ بالذَّمِّ مَحْذُوفٌ والتَقديرُ: بِئْسَ البَدَلُ إِبْليسُ وَذُرِّيَّتُهُ، و "لِلظَّالِمِينَ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "بَدَلًا"، وَيَجُوزُ أَنْ يتعلَّقَ بِمَحْذوفِ حَالٍ مِنْ "بَدَلًا" وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ الذَّمِّ، وَالمَخْصُوصُ بالذَّمِّ مَحْذُوفٌ وُجُوبًا، وَالتَقْديرُ: بِئْسَ البَدَلُ للظالِمِينَ بَدَلًا، والمَخْصُوصُ بالذَّمِّ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَ "الْظَّالِمِينَ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَعَلامَةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالِمُ. وَ "بَدَلًا" مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ لِفَاعِلِ "بِئْسَ"، وَجُمْلَةُ "بِئْسَ" إِنْشائِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.