وَقَدْ تَصَدَّى الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تعالى فِي كِتَابِهِ: (عَجَلَةِ الْمُنْتَظِرِ فِي شَرْحِ حَالَةِ الْخَضِرِ) لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ فَبَيَّنَ أَنَّهَا مَوْضُوعَاتٌ، وَمِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَبَيَّنَ ضَعْفَ أَسَانِيدِهَا بِبَيَانِ أَحْوَالِهَا، وَجَهَالَةِ رِجَالِهَا، وَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ.
وَقالَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي سُقْنَاهَا آنفًا ليسَ فيها دليلٌ عَلى وَفَاةِ عبدِ اللهِ الخَضِرِ ـ عليْهِ السَّلامُ، وأَنَّ عُمُومُ قولِهِ تعالى مِنْ سُورةِ الأَنْبِيَاءِ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الآية: 34، لَا يَشْمَلُهُ، وَلَا عُمُومُ قَولِهِ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ عَلَى رَأْسِ مِئَةِ سَنَةٍ لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ)) ولا غيرُهُ ممَّا سُقْناهُ مِنْ آياتٍ وأَحَاديثَ، ومِنْ هؤلاءِ لعلماءِ الإمامُ الْقُرْطُبِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ، حيثُ قالَ في تفسيرِهِ (الجامِع لأَحْكامِ القرآنِ): (وَلَا حُجَّةَ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ ـ يَعْنِي الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْخَضِرَ حَيٌّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ ((مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ)). لِأَنَّ الْعُمُومَ وَإِنْ كَانَ مُؤَكَّدَ الِاسْتِغْرَاقِ لَيْسَ نَصًّا فِيهِ، بَلْ هُوَ قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ، فَكَمَا لَمْ يَتَنَاوَلْ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَمْ يُقْتَلْ، بَلْ هُوَ حَيٌّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ، وَلَا يَتَنَاوَلُ الدَّجَّالَ مَعَ أَنَّهُ حَيٌّ بِدَلِيلِ حَدِيثٍ الْجَسَّاسَةِ: فَكَذَلِكَ لَمْ يَتَنَاوَلِ الْخَضِرَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ مُشَاهَدًا لِلنَّاسِ، وَلَا مِمَّنْ يُخَالِطُهُمْ حَتَّى يَخْطُرَ بِبَالِهِمْ حَالَةَ مُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ لَا يَتَنَاوَلُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ أَحْيَاءٌ، وَيَحُجُّونَ مَعَ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ فَتَى مُوسَى فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا.
ولَا يَخْفَى فَإِنَّ الإمامَ القرطُبيَّ قَدِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هوَ عَامٌّ فِي كُلِّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ عُمُومًا مُؤَكَّدًا، لِأَنَّ زِيَادَةَ "مِنْ" قَبْلَ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَجْعَلُهَا نَصًّا صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ لَا ظَاهِرًا فِيهِ، وهُوَ ما قَرَّرَهُ عُلَماءُ الْأُصُولِ، وَلَوْ فَرَضْنَا صِحَّةَ مَا قَالَهُ ـ رَحِمَهُ الل، مِنْ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ لَا نَصَّ فِيهِ، وَأَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ كَمَا هُوَ الْحَقُّ فِي كُلِّ عَامٍّ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى وُجُوبِ اسْتِصْحَابِ عُمُومِ الْعَامِّ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ صَالِحٌ لِلتَّخْصِيصِ سَنَدًا وَمَتْنًا، فَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةُ عَنْ دَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّصَ بِهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ إِجْمَاعًا. وَقَوْلُهُ: "إِنَّ عِيسَى لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عُمُومُ الْحَدِيثِ" فِيهِ نَظَرٌ لأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْلِهِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عِيسَى، لِأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فِيهِ: ((لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ بِهَا الْيَوْمَ أَحَدٌ))، فَخَصَّصَ ذَلِكَ بِظَهْرِ الْأَرْضِ فَلَمْ يَتَنَاوَلِ اللَّفْظُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَعِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، في السَّماءِ إِذْ قَدْ رَفَعَهُ اللهُ مِنَ الْأَرْضِ فقَالَ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ: {بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} الآيةَ: 158، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا، وأَمَّا. ادِّعاءُ حَيَاةِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَفَتَى مُوسَى ـ إذا صحَّ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهم يَمَوْتونَ عِنْدَ تمامِ الْمِئَةِ المذكورةِ في الحديثِ الشَّريفِ، وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ يُعَارِضُهُ. وأَمَّا أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ مُشَاهَدًا لِلنَّاسِ، وَلَا مِمَّنْ يُخَالِطُهُمْ حَتَّى يَخْطُرَ بِبَالِهِمْ حَالَةَ مُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فإِنَّها دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَالْأَصْلُ خِلَافُهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ بَنِي آدَمَ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِاتِّفَاقِهِمْ فِي الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَمُشَابِهَتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ. ولَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَا يَرَاهُ بَنُو آدَمَ، فَإِنَّ اللهَ الَّذِي أَعْلَمَ النَّبِيَّ بِالْغَيْبِ الَّذِي هُو ((هَلَاكُ كُلِّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ فِي تِلْكَ الْمِئَةِ)) عَالِمٌ بِالْخَضِرِ، وَبِأَنَّهُ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ، وَلَوْ سَلَّمْنَا جَدَلِيًّا أَنَّ الْخَضِرَ فَرْدٌ نَادِرٌ لَا تَرَاهُ الْعُيُونُ، وَأَنَّ مِثْلَهُ لَمْ يَشْمَلْهُ الْعُمُومِ، فَإِنَّ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ شُمُولُ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ لِلْفَرْدِ النَّادِرِ وَالْفَرْدِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْفَرْدَ النَّادِرَ وَغَيْرَ الْمَقْصُودِ لَا يَشْمَلُهُمَا الْعَامُّ وَلَا الْمُطْلَقُ. فقد قالَ الإمامُ السُّبْكِيُّ في (جَمْعِ الْجَوَامِعِ ، مَبْحَثِ الْعَامِّ) مَا نَصُّهُ: وَالصَّحِيحُ دُخُولُ النَّادِرَةِ وَغَيْرِ الْمَقْصُودَةِ تَحْتَهُ، فَقَوْلُهُ: "النَّادِرَةُ وَغَيْرُ الْمَقْصُودَةِ"، يَعْنِي الصُّورَةَ النَّادِرَةَ وَغَيْرَ الْمَقْصُودَةِ، وَقَوْلُهُ: "تَحْتَهُ" يَعْنِي الْعَامَّ، وَالْحَقُّ أَنَّ الصُّورَةَ النَّادِرَةَ، وَغَيْرَ الْمَقْصُودَةِ صُورَتَانِ لا وَاحِدَةٌ، وَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْه،ٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، لِأَنَّ الصُّورَةَ النَّادِرَةَ قَدْ تَكُونُ مَقْصُودَةً وَغَيْرَ مَقْصُودَةٍ، وَالصُّورَةُ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ قَدْ تَكُونُ نَادِرَةً وَغَيْرَ نَادِرَةٍ، وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى دُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَعَدَمِ دُخُولِهَا فِيهِمَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ دَفْعِ السَّبَقِ (بِفَتْحَتَيْنِ) فِي الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْفِيلِ، فقد جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم،َ قَالَ: ((لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ)) وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنُ مَاجَهْ "أَوْ نَصْلٍ" وَالْفِيلُ ذُو خُفٍّ، وَهُوَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِدُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْعَامِّ يَجُوزُ دَفْعُ السَّبَقِ فِي الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْفِيَلَةِ، وَالسَّبَقُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْمَالُ الْمَجْعُولُ لِلسَّابِقِ، وَقد جعلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ هَذَا الْحَدِيثَ مِثَالًا لِدُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْمُطْلَقِ لَا الْعَامِّ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "إِلَّا فِي خُفٍّ" نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ "إِلَّا" مُثْبَتٌ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ إِطْلَاقٌ لَا عُمُومٌ، وَجَعَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ مِثَالًا لِدُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْعَامِّ. وَوَجْهُ عُمُومِهِ مَعَ أَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ أَنَّهُ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ مَعْنًى، إِذِ التَّقْدِيرُ: إِلَّا إِذَا كَانَ فِي خُفٍّ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ تَعُمُّ، وَضَابِطُ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ هِيَ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَرْدُ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُتَكَلِّمِ ـ غَالِبًا، لِنُدْرَةِ وُقُوعِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الصُّورَةِ النَّادِرَةِ: هَلْ تَدْخُلُ فِي الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ أَوْ لَا؟! اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ الْخَارِجِ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، كَمَنْ تَلْدَغُهُ عَقْرَبٌ فِي ذَكَرِهِ فَيَنْزِلُ مِنْهُ الْمَنِيُّ، وَكَذَلِكَ الْخَارِجُ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ كَالَّذِي يَنْزِلُ فِي مَاءٍ حَارٍّ أَوْ تَهُزُّهُ دَابَّةٌ فَيَنْزِلُ مِنْهُ الْمَنِيُّ، فَنُزُولُ الْمَنِيِّ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، أَوْ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ صُورَةٌ نَادِرَةٌ، وَوُجُوبُ الْغُسْلِ مِنْهُ يَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَدْخُولِ فِي دُخُولِ الصُّوَرِ النَّادِرَةِ فِي الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَعَدَمِ دُخُولِهَا فِيهِمَا، فَعَلَى دُخُولِ تِلْكَ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي عُمُومِ "إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" فَالْغُسْلُ وَاجِبٌ، وَعَلَى الْعَكْسِ فَلَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْمُطْلَقِ مَا لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ دَفْعُ الْخُنْثَى أَوْ لَا؟ فَعَلَى دُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْمُطْلَقِ يَجُوزُ دَفْعُ الْخُنْثَى، وَعَلَى الْعَكْسِ فَلَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الِاخْتِلَافِ فِي دُخُولِ الصُّورَةِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ فِي الْإِطْلَاقِ، مَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ آخَرَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا لِيَخْدِمَهُ، فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ عَبْدًا يُعْتَقُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَالْمُوَكِّلُ لَمْ يَقْصِدْ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ خَادِمًا يَخْدِمُهُ، فَعَلَى دُخُولِ الصُّورَةِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ فِي الْمُطْلَقِ يَمْضِي الْبَيْعُ وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ، وَعَلَى الْعَكْسِ فَلَا. ومِمَّنْ مَالَ إِلَى عَدَمِ دُخُولِ الصُّوَرِ النَّادِرَةِ وَغَيْرِ الْمَقْصُودَةِ فِي الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
والرَّاجِحُ ـ بِحَسَبِ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ، شُمُولُ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ لِلصُّوَرِ النَّادِرَةِ، لِأَنَّ الْعَامَّ ظَاهِرٌ فِي عُمُومِهِ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْعَامَّ ظَاهِرٌ فِي عُمُومِهِ وَشُمُولِهِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ فَحُكْمُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا يَعْدِلُ عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَصْلُحُ لِلتَّخْصِيصِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ الكِرامُ ـ رُضْوانُ اللهِ عَليْهِمْ، يَعْمَلُونَ بِشُمُولِ الْعُمُومَاتِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ فِي ذَلِكَ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ دُخُولَ الْخَضِرِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأنبياءِ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الْآيَةَ: 34، وَعُمُومُ قَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَلاةُ وَالسَّلامُ: ((أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ عَلَى رَأْسِ مِئَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ أَحَدٌ)). هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَا يُمْكِنُ خُرُوجُهُ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ إِلَّا بِمُخَصِّصٍ صَالِحٍ لِلتَّخْصِيصِ، وَيَبْقَى الْعَامُّ حُجَّةً فِي الْبَاقِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
وَبِهَذَا كُلِّهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى مَوْتِ كُلِّ إِنْسَانٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِي ظَرْفِ تِلْكَ الْمِئَةِ، وَنَفْيِ الْخُلْدِ عَنْ كُلِّ بَشَرٍ قَبْلَهُ تَتَنَاوَلُ بِظَوَاهِرِهَا الْخَضِرَ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا نَصٌّ صَالِحٌ لِلتَّخْصِيصِ كَمَا رَأَيْت.
قوْلُهُ: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} قَالُوا: الرَّحْمَةُ الَّتي ذَكَرَها اللهُ تَعَالَى هُنَا مُمْتَنًّا بها على عبدِهِ الخضِرِ هَيَ رَحْمَةُ الْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ. وهُمَا ـ في الحقيقةِ رَحْمَتَانِ: رَحْمَةُ النُّبُوَّةِ وَعِلْمُهَا، أَوْ رَحْمَةُ الْوَلَايَةِ وَعِلْمُهَا، وَاخْتَلَفُوا بعدَ ذَلِكَ فِي الْخَضِرِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: هَلْ هُوَ نَبِيٌّ، أَوْ رَسُولٌ، أَوْ وَلِيٌّ، وَقَدْ نَظَمَ السُّيُوطِيُّ مَنِ اخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ، فَقَالَ:
وَاخْتَلَفَتْ فِي خَضِرٍ أَهْلُ الْعُقُولِ ............ قِيلَ نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ أَوْ رَسُولُ لُقْمَانَ، ذِي القَرْنَيْنِ، حَوَّاءُ، مَرْيَمْ ..... وَالوَقْفُ فِي الجَمِيعِ رَأْيُ المُعْظَمْ
وَقِيلَ هُوَ مَلَكٌ، وَلَكِنَّ يُفْهَمُ مِنْ بَعْضِ الْآيَاتِ أَنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا رَحْمَةُ نُبُوَّةٍ، وَأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ اللَّدُنِّيَّ عِلْمُ وَحْيٍ، وفِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ مُنَاقَشَاتٍ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ أُطْلِقَتِ "الرَّحْمَةِ" عَلَى النُّبُوَّةِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ الكريمِ، فقالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الْآيَةَ: 86، وقالَ مِنْ سُورةِ الزُّخْرُفِ: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} الْآيَةَ: 31، أَيْ: نُبُوَّتَهُ حَتَّى يَتَحَكَّمُوا فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الدُّخَانِ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} الْآيَاتِ: (4 ـ 6)، كَمَا تَكَرَّرَ فِيهِ إِطْلَاقُ الْعِلْمُ الْمُؤْتَى مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى عِلْمِ الْوَحْيِ، كقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} الآيةَ: 113، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} الْآيَةَ: 68، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ المُبَارَكاتِ.
وَواضِحٌ أَنَّ الرَّحْمَةَ وَإِيتَاءَ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ هو أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ وَغَيْرِهَا، وَكَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فإنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، أَنَّ وُجُودَ الْأَعَمِّ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَخَصِّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى بعدَ ذلكَ في الآيَةِ: 82، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} هوَ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ فِي أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْعِلْمَ اللَّدُنِّيَّ اللَّذَيْنِ امْتَنَّ اللهُ بِهِمَا عَلَى عَبْدِهِ الْخَضِرِ ـ عليْهِ السَّلامُ، عَنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ. أَيْ: وَإِنَّمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِ اللهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، وَأَمْرُ اللهِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، إِذْ لَا طَرِيقَ تُعْرَفُ بِهَا أَوَامِرُ اللهِ وَنَوَاهِيهِ إِلَّا طريقَ الْوَحْيَ مِنْهُ ـ جَلَّ وَعَلَا، وَلَا سِيَّمَا قَتْلُ النَّفْسِ الْبَرِيئَةِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَخَرْقُ سُفُنِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْتَعَدِّيَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ أَنْفُسِهم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ حَصَرَ اللهُ تَعَالَى طُرُقَ الْإِنْذَارِ فِي الْوَحْيِ، فَقالَ مِنْ سُورةِ الأَنْبِياءِ: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} الآية: 45، فإنَّ "إِنَّمَا" هي صِيغَةٌ للحَصْرٍ، فَإِنْ قِيلَ: وقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الْإِلْهَامِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْإِلْهَامَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى شَيْءٍ، لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ، وَعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، بَلْ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَغَيْرُ الْمَعْصُومِ لَا ثِقَةَ بِخَوَاطِرِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ دَسِيسَةَ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ ضُمِنَتِ الْهِدَايَةُ فِي اتِّبَاعِ الشَّرْعِ، وَلَمْ تُضْمَنْ فِي اتِّبَاعِ الْخَوَاطِرِ وَالْإِلْهَامَاتِ، وَقدْ عُرِّفَ الْإِلْهَامُ ِاصْطِلَاحًا بِأَنَّهُ: إِيقَاعُ شَيْءٍ فِي الْقَلْبِ يُثْلَجُ لَهُ الصَّدْرُ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِوَحْيٍ وَلَا نَظَرٍ فِي حُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، يَخْتَصُّ اللهُ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، أَمَّا مَا يُلْهَمُهُ الْأَنْبِيَاءُ مِمَّا يُلْقِيهِ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَيْسَ كَإِلْهَامِ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ. ولَا طَرِيقَ تُعْرَفُ بِهَا أَوَامِرُ اللهِ وَنَوَاهِيهِ، وَمَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ. وَكثيرةٌ هيَ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كقَولِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الإسْراءِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الآية: 15، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى نُلْقِيَ فِي الْقُلُوبِ إِلْهَامًا، وَكقَولِه تَعَالَى مِنْ سُورةِ النِّساء: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} الآية: 165، وَقَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ طَهَ: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} الْآيَةَ: 134.
قوْلُهُ تَعَالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} الفاءُ: للعَطْفِ والتعقيبِ، و "وَجَدَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وأَلِفُ الاثْنَيْنِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَ "عَبْدًا" مَنصوبٌ بالمَفْعوليَّةِ، لِأَنَّ "وَجَدَ" هُنَا بِمَعْنَى "أَصَابَ" فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ أُولَى لِـ "عَبْدًا"، وُجُمْلَةُ "وَجَدَا" مَعْطوفَةٌ عَلَى جملةِ "ارْتَدَا" عَلى كونِها مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ اسْتِئْنافًا بَيَانيًّا فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} آتَيْناهُ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نَا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نَا" التَعْظيمِ هَذهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي محلِّ الرَّفعِ بالفاَعِليَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُهُ الأوَّلُ. و "رَحْمَةً" مفعولُهُ الثاني مَنْصُوبٌ بِهِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "رَحْمَةً". و "عِنْدِنا" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "نا" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَجُمَلَةُ "آتَيْناهُ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً ثانيَةً لِـ "عَبْدًا".
قوْلُهُ: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "عَلَّمْناهُ" مثلُ "آتَيْناهُ" معطوفٌ عليْهِ، والجُمْلَة مَعْطوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "عِلْمًا" لأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْها، ويَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بالفِعْلِ قَبْلَهُ. "لَدُنْ" اسْمٌ لِمَبْدَأِ الغايَةِ، زَمَانِيَّةً كانَتْ أَوْ مَكَانِيَّةً، لا تَخْلُو مِنْ "مِنْ" غَالِبًا. مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَهِيَ بِجَمِيعِ لُغَاتِهَا وَأَقْسَامِهَا لَأَوَّلِ غَايَةِ زَمَانٍ أَوْ مَكانٍ، وَهِيَ مِثْلُ "عِنْدَ" بِمَعْنَاهَا وإِضافَتِهَا، وَتَجُرُّ مَا بَعْدَهَا بِالإِضَافَةِ لَفْظًا إِنْ كَانَ مُعْرَبًا، وَمَحَلًّا إِنْ كانَ مَبْنِيًّا ـ كَمَا هوَ الحالُ هُنَا، أَوْ كانَ جُمْلَةً فإِذَا أُضِفَتْ إِلَى جُمْلَةٍ تَمَحَّضَتْ للزَّمانِ، لِأَنَّ ظُرُوفَ المَكَانِ لَا يُضَافُ مِنْهَا إِلَى الجُمْلَةِ إِلَّا "حَيْثُ"، وَإِذَا اتَّصَلَتْ بِـ "لَدُنْ" يَاءُ المُتَكَلِّمِ اتَّصَلَتْ بِهَا نُونُ الوِقايَةِ، فقيلَ: "لَدُنِّي" بِتَشْديدِ النُّونِ. وَعِلَّةُ بِنائِها كَونُها دَالَّةً عَلَى المُلاصَقَةِ، وَمُخْتَصَّةً بِهَا، بِخِلافِ "عِنْدَ" فَإِنَّها لا تَدُلُّ عَلَى المُلاصَقَةِ، فَصَارَ فِيها مَعْنًى لا يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّرْفُ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبيلِ مَا يَدُلُ عَلَيْهِ الحَرْفُ، فَكَأَنَّهَا مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى حَرْفٍ كانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُوضَعَ لِذَلِكَ، فَلَمْ يُوضَعْ، كَمَا قَالوا فِي اسْمِ الإِشَارَةِ، واللُّغَتَانِ المَذْكورتَانِ مِنْ الإِعْرَابِ والبِنَاءِ مُخْتَصَّتانِ بِـ "لَدُنْ" المَفْتُوحَةِ اللامِ، المَضْمُومَةِ الدَّالِ، الواقِعِ آخَرَهَا نُونٌ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ لُغَاتِهَا فَهِي ـ فِيها، مَبْنِيَّةٌ عِنْدَ جَميعِ العَرَبِ، وقدْ تَنْصِبُ "غُدْوَةً" عَلَى التَمْيِيزِ نَحْوَ قولِكَ: لَدُنْ غُدْوَةً، لأَنَّهمْ شَبَّهوا النُّونَ في "لَدُنْ" بالتَنْوينِ في آخِرِ الاسْمِ كقولِكَ: (عِنْدِي جبَّةٌ صُوفًا) فتَنْصِبُ "صُوفًا" تَشْبِيهًا لَهَا بِالمُمَيَّزِ والمَفْعُولِ فِي نَحْوِ: هَذَا ضَارِبٌ زَيدًا. وَوَجْهُ الشّبَهِ بَيْنَ نونِ "لَدُنْ" والتنوينِ في الاسْمِ اخْتِلافُ حَرَكَةِ الدَّالِ قَبْلَ النُّونِ، لأَنَّهُ يُقالُ: "لَدُنْ" بضمِّ الدالِ، ويُقَالُ: "لَدَنْ" بِفَتْحِهَا، فَلَمَّا اخْتَلَفَتِ الحَرَكَتَانِ قَبْلَ النُّونِ شَابَهَتِ النُّونُ التَنْوينَ، وشَابَهَتِ الحَرَكَتَانِ قَبْلَهَا بِاخْتِلافِهِمَا حَرَكَاتِ الإِعْرَابِ في نَحْوِ: هَذَا ضَارِبٌ زَيْدًا، وَرَأَيْتُ ضَارِبًا زَيْدًا، وَأَيْضًا لِأَنَّهُمْ حَذَفُوا النُّونَ فَقَالوا: "لَدُ غُدْوَة"، كَمَا يُحْذَفُ التَنْوينِ تَارَةً وَيَثْبُتُ أُخْرَى، فَلَمَّا أَشْبَهِتُ النُّونُ فيها التَنْوينَ في الاسْمِ انْتَصَبَتْ "غُدْوَة" تَشْبيهًا لها بِالمَفْعُولِ، وقال بعضُهم: كمَا جَازَ أَنْ تَنْصِبَ "غُدْوةً" تَشْبِيهًا بالمَفْعُولِ، كَذَلِكَ جازَ أَنْ تُشَبَّه بالفَاعِلِ، فَتُرْفَعَ، فَقَالَ: لَدُنْ غُدْوَةٌ، كَمَا تَقُولُ: أَقَائِمٌ زَيْدٌ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُ فيها القياسَ، فَيَجُرُّ بِهَا، فَيَقُولُ: لَدُنْ غُدْوَةٍ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا سُؤَالَ عَلَيْهِ، قالَ سِيبَوَيْهِ: "وَلَا تُنْصَبُ "غُدْوَة" مَعَ غَيْرِ "لَدُنْ" لِكَثْرَتِهَا فِي كَلامِهِمْ، فَغَيَّروها ـ يَعْني عَنِ الجَرِّ، لِكَثْرَتِها، وعَلَى هَذَا فَلَا يُقالُ: لَدُنْ بُكْرَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَكْثُرْ فِي كلامِهِمْ. وَفِيها عَشْرُ لُغَاتٍ أَشْهَرُها: "لَدُنْ" و "لَدَنْ" و "لَدِنْ" بضمِّ الدالِ وفتحها وكَسْرِها. وَ "لَدْنِ" و "لُدْنِ" بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّهَا، مَعْ سُكونِ الدَّالِ وَكَسْرِ النُّونِ. و "لُدُنَ" و "لُدْنَ" بالضَّمِّ والسُّكونِ وَفَتْحِ النُّونِ. و "لَدْ"، وَ "لَدْ" و "لُدْ" بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّهَا مَعْ سُكونِ الدَّالِ، و "لَدُ" بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الدَّالِ. وَ "لَتُ" بِإِبْدالِ الدَّالِ تَاءً سَاكِنَةً، وَمَتَى أُضِيفَتِ المَحْذوفَةُ النُّونِ إِلى ضَمِيرٍ وَجَبَ رَدُّ النُّونِ. وَهُوَ مُضَافٌ، وَ "نَا" ضَمِيرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِليْهِ. وَ "عِلْمًا" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ لِـ "عَلَّمْنَاهُ" مَنْصوبٌ بِهِ وليسَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، وَلَوْ كانَ مَفْعولًا مُطْلَقًا لَقَالَ "تَعْليمًا"، لِأَنَّ فعلَهُ هُو مِنْ بابِ "فَعَّلَ" الرُّباعِيِّ بِالتَشْديدِ، وَقِياسُ مَصْدَرِهِ "التَّفْعيلُ".