قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا
(67)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} شَرْطٌ مِنَ شُروطِ هَذِهِ الصُّحْبَةِ التي طَلَبَها سَيُّدُنا موسَى ـ عَليْهِ السَّلامُ، بَدَأَ العَبْدُ الصالحُ الخضِرُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، يُمْلِيهَا عَلَى نبيِّ اللهِ ورسولِهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، موضِّحًا لهُ طَبيعَةِ عِلْمِهِ، شارحًا الاختلافَ بَيْنَهُما في المَذْهَبِ، ولذلكَ فَسَوفَ تَرَى مِنِّي تَصَرُّفاتٍ لَا تستطيعُ معها الصَّبْرَ؛ لأَنَّهُ لا عِلْمَ لَكَ بِبَواطِنِ هَذِهِ الأُمُورِ، فَإِنَّكَ نَبِيٌّ رَسُولٌ، وَالرَّسُولُ لا يَسَعُهُ إِذَا ما رَأَى مُنْكَرًا فِي ظاهِرِه إِلَّا الإنْكارُ عَلَيْهِ، ومُحاولةُ التَغْيِيرِ، وكأَنَّهُ يَلْتَمِسُ لَهُ العُذْرَ سَلَفًا عَلى عَدَمِ اسْتطاعتِهِ الصَبْرَ عَلى مَا يكونُ مِنْهُ مِنْ أَفْعالٍ هِيَ مُنْكَرٌ بحَسَبِ الظاهِرِ، لكنَّها في الحقيقةِ طاعةٌ للهِ لأَنَّ لَهُ فِيها مِنَ الحكمةِ ما لا يَعْلَمُها إِلَّا مَنْ أَطْلَعَهُ اللهُ تَعَالى عليها.
وَقد أَكَّدَ هذهِ الجُمْلَةَ بِـ "إِنَّ" وَ بِـ "لَنْ" تَحْقِيقًا لِمَضْمُونِهَا مِنْ تَوَقُّعِ أَنْ يَضِيقِ مُوسَى ذَرْعًا بمَا يرى مِنْ فِعْلِهِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ تَصْدُرُ مِنْهُ أَفْعَالٌ ظَاهِرُهَا الْمُنْكَرُ وَبَاطِنُهَا الْمَعْرُوفُ. وَلَمَّا كَانَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كلَّفَهُمُ اللهُ بِإجراءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ، عَلِمَ أَنَّهُ سَيُنْكِرُ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، وذلكَ لِاخْتِلَافِ الْمَنهَجَيْنِ.
وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْهُ لِمُوسَى، وَتَنْبِيهٌ لهُ إِلى مَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنْهُ حَتَّى يُقْدِمَ عَلَى مُتَابَعَتِهِ ـ إنْ شاءَ ذلكَ، عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ وَبِغَيْرِ اغْتِرَارٍ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِخْبَارَ وحسْبُ. فَمَنَاطُ التَّأْكِيدَاتِ فِي الجُمْلَةِ إِنَّمَا هُوَ تَحْقِيقُ خُطُورَةِ أَعْمَالِهِ وَغَرَابَتِهَا فِي الْمُتَعَارَفِ، بِحَيْثُ لَا تُتَحَمَّلُ، وَفِي هَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ التَّعْلِيمِ بِأَنْ يُنَبِّهَ الْمُعَلِّمُ الْمُتَعَلِّمَ بِعَوَارِضِ مَوْضُوعَاتِ الْعُلُوم المُلَقَّنَةِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ فِي مُعَالَجَتِهَا مَشَقَّةٌ.
وَزَادَهَا تَأْكِيدًا عُمُومُ الصَّبْرِ الْمَنْفِيِّ لِوُقُوعِهِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ اسْتِطَاعَتُهُ الصَّبْرُ الْمُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ تَجَشَّمَ أَنْ يَصْبِرَ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ، فَأَفَادَ هَذَا التَّرْكِيبُ نَفْيَ حُصُولِ الصَّبْرِ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى آكَدِ وَجْهٍ. وَفي زِيَادَةِ "مَعِيَ" إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِدُ مِنْ أَعْمَالِهِ مَا لَا يَجِدُ مِثْلَهُ مَعَ غَيْرِهِ، ولذلكَ فَانْتِفَاءُ الصَّبْرِ عَلَى أَعْمَالِهِ أَجْدَرُ.
قولُهُ تَعَالى: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} قالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على الخضِرِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجملةُ الفعليَّةُ هذهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. و "إِنَّكَ" إنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "لَنْ" حرفٌ ناصِبٌ. و "تَسْتَطِيعَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بها، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. و "مَعِيَ" مَنْصُوبٌ عَلى الظَرْفيَّةِ الاعْتِبارِيَّةِ وعَلامةُ نصْبِهِ فتحةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لاشْتِغَالِ المَحَلِّ بما يُناسِبُ الياءَ، مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فاعِلِ "تَسْتَطِيعَ"؛ أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ مَعِي، وَهُوَ مُضافٌ، وَيَاءُ المُتَكلِّمِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "صَبْرًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وَجُمْلَةُ "تَسْتَطِيعَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لِـ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قَالَ".