وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ} أيْ ولم تكنُ لهُ عشيرةٌ تستطيعُ نَصْرَهُ، وَلَا جُنْدٌ وَلَا خَوَلٌ وَلَا أَتْبَاعٌ يَسْتَطيعِونَ إِعَانَتَهُ على ما حَلَّ بهِ منْ قَضَاءِ اللهِ تَعَالى، وما نَزَلَ بِهِ غَضَبِهِ وعذابِهِ. ومَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْصُرَ أَحَدًا عَلى اللهِ، أَوْ يُعينُ عَلَيْهُ والجميعُ في قَبْضَتِهِ ـ تَعَالى وَعَزَّ، يُمِدُّهُ بالحياةِ والقوَّةِ في كلَّ طرفةِ عَيْنٍ، وهو القَيُّومُ الذي بهِ قامَ الوجودُ، وَكُلُّ ما فيهِ بهِ موجودُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَلم تكن لَهُ فِئَةٌ"، قَالَ: ولمْ تكُنْ لهُ عَشِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ: "وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ" أَيْ: جُنْدٌ يُعِينُونَهُ، و "مِنْ دُونِ اللهِ".
وَقَدْ حَمَلَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، عَلَى مَعْنَى "فِئَة" فَقالَ: "يَنْصُرونَهُ"، وذلك لِأَنَّهُمْ فِي قُوَّةِ القَوْمِ وَالنَّاسِ، وَلَوْ أَنَّهُ حَمَلَ عَلَى لَفْظِهَا لأَفْرَدَ، كَمَا قالَ في الآيَةِ: 13، منْ سُورةِ آل عِمْرانَ: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وأُخْرَى كَافِرَةٌ}.
قولُهُ: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} أَيْ: وَمَا كانَ مُمْتَنِعًا منَ اللهِ ـ تَعَالى. أَخْرَجَ ذلِكَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَقد نَزلَ بهِ هذا العذابُ، وأَحَاطَ بِهِ هَذَا الْعِقَابَ، جَرَّاءَ طُغْيَانِهِ، وَجَعْلِهِ ثَرْوَتَهُ وَمَالَهُ وَسِيلَةً إِلَى احْتِقَارِ الْمُؤْمِنِ الْفَقِيرِ، ولَيْسَ لِمُجَرَّدِ كُفْرِهِ، لِأَنَّهُ كما جرتْ عادةُ اللهِ تعالى، فإنَّهُ قَدْ يُمَتِّعُ الكثيرَ مِنَ الكُفَّارِ بِطُولِ حَيَاتِهِمْ، وَيُمْلِي لَهُمْ وَيَسْتَدْرِجُهُمْ. لِكِنَّ هَذا الكافِرَ لَمَّا اعْتَزَّ بِتِلْكَ النِّعَمِ، وَاتَّخَذَها وَسيلَةً إِلى الاسْتِكْبارِ واحْتِقَارِ عبادِ اللهِ، فقَدِ اسْتَحَقَّ عِقَابَ اللهِ بِسَلْبِ تِلْكَ النِّعَمِ عَنْهُ كَمَا سُلِبَ النِّعْمَةَ عَنْ قَارُونَ حِينَ قَالَ: {إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي} الآيةَ: 78، منْ سورةِ الْقَصَصِ. وَبِهَذَا كَانَ هَذَا الْمَثَلُ مَوْضِعَ عِبْرَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا النِّعْمَةَ التي أَنعمَ اللهُ عليهم بها وَسِيلَةً لِلتَّرَفُّعِ عَنْ مُجَالَسَةِ قَوْمٍ يَرَوْنَهُمْ أقلَّ منهم مالًا وَأَحَطَّ مَنْزِلَةً، فَطَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ ـ صلّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَطْرُدَهُمْ عَنْ مَجْلِسِهِ، أَوْ أنْ يخصِّصَ يومًا لَهُمْ، ويومًا لأُولئكَ الفقراءِ الضُعَفاءِ كَمَا تَقَدَّمَ بيانُهُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "لَمْ" حرفٌ للجَزْمِ والنَّفْيِ والقلْبِ. و "تَكُنْ" فعلٌ مُضارعٌ ناقِصٌ مَجْزُومٌ بِهِ، وأصلُهُ "تَكون" فَلَمَّا جُزِمَ حُذِفَ واوُهُ لالْتِقاءِ السَّاكنينِ. و "لَهُ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ لِـ "تَكُنْ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرْفِ الجرِّ. و "فِئَةٌ" اسْمُ "تَكُنْ" مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ بِهِ، وهذِهِ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "أُحِيطَ".
قولُهُ: {يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ} يَنْصُرُونَهُ: فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُولِيَّةِ. والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ صِفَةً لِـ "فِئَةٌ"، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ خَبَرًا لـ "تكنْ" وَهُوَ الظاهِرُ، كما يجوزُ أَنْ تَكُونَ حَالِيَّةً، وَالخَبَرُ الجَارُّ المُتَقَدِّمُ، وقد سَوَّغَ مَجِيءَ الحالِ مِنَ النَّكِرَةِ تَقَدُّمُ النَّفْيِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متَعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فاعِلِ "يَنْصُرُونَ". وَ "دُونِ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" ايمٌ مجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، وَقد ذُكِّرَتِ الصِّفَةُ، وَجُمِعَتْ لِأَنَّ الفِئَةَ تَتَضَمَّنُ الجَمْعَ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الذُّكورَ وَالإِناثَ.
قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} الواوُ: عَاطِفَةٌ، وَ "ما" نَافِيَةٌ. و "كانَ" فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مبنيٌّ على الفتحِ، وَاسْمُهَا ضَميرٌ مُسْتترٌ بها جوازًا تَقْديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى صَاحِبِ الجَنَّةِ. و "مُنْتَصِرًا" خَبَرُهَا منصوبٌ بِها، وَالجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ قولِهِ "وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ".
قرَأَ الجُمْهُورُ: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ} بالتاءِ مِنْ فَوْقُ، وَقَرَأَ الأَخَوانِ (حمزةُ والكِسائيُّ) "يَكُنْ" بالياءِ مِنْ تَحْتُ. وَهُما واضِحَتَانِ؛ إِذِ التَأْنيثُ مَجازِيٌّ، وحَسَّنَ التَذْكِيرَ الفَصْلُ. قرَأَ الجُمْهُورُ: {ينصُرونَهَ} فحَمَلُوا عَلَى المَعْنَى. وَقَرَأَ ابْنُ أَبي عَبْلَةَ: "تَنْصُرُهُ" فحملَ عَلَى اللَّفْظِ.