فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} قَالَ أَبو إِسْحاق الزَّجَّاجُ: مَعْنَى "فَأَرَدْنَا" أَيْ" فَأَرادَ اللهُ، ومِثْلُهُ فِي آيِ القُرْآنِ الكَريمِ كَثِيرٌ. وَقِيلَ المَعْنَى أَرَدْنَا أَنْ يَرْزُقَهُمَا اللهُ "رَبُّهُمَا" بَدَلَ هَذَا الوَلَدِ وَلَدًا "خَيْرًا مِنْهُ" فيكونُ الضميرُ عائدًا إلى الخَضِرِ ـ عليهِ السَّلامُ، وقدْ تَكَلَّمَ بِلُغَةِ المُتَكَلِّمِ الَّذي مَعَهُ غَيْرُهُ، مُشيرًا إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَعَهُ آمِرًا ومؤيِّدًا، فَلَيْسَتْ إِرادَتُهُ وَحْدَهُ، وذَلِكَ لِخُطُورةِ القَتْلِ، وَإِنَّما هِيَ إِرادَةُ اللهِ ـ سُبْحانَهُ، وهوَ مُنَفِّذٌ لِهَذِهِ الإَرادَةِ، وَلَمْ يَقُلْ بِأَنَّها إِرادةُ اللهِ وَحْدَهُ تَأَدُّبًا معَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، أَنْ يَنْسِبَ القَتْلَ لَهُ تَعَالَى. بَيْنَمَا نَسَبَ خَرْقَ السَّفِينَةَ لِنَفسِهِ فقال: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} لِأَنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ لَيْسَ فِي خُطُورَةِ القَتْلِ فَساغَ لَهُ أَنْ يَنْسِبَهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كانَ بِأَمْرِ اللهِ أَيْضًا، والإِبْدالُ رَفْعُ الشَّيْءِ وَوَضْعُ آخَرَ مَكانَهُ، وَالتَفْضِيلُ بِـ "خيرًا" لَيْسَ عَلَى بَابِهِ، إذْ لَيْسَ في الأوَّلِ أَيُّ خَيْرٍ. وَ "زَكَاةً" دِينًا، وَصَلاحًا، وتَقْوًى، وَطَهَارَةً مِنَ الذُّنُوبِ. وَ "أَقْرَبَ رُحْمًا" بِسُكونِ الحاءِ، وَ "رُحُمًا" بِضَمِّها، مِنَ الرَّحْمَةِ، فَيُقَالُ: رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَرُحْمًا، وَالأَلِفُ للتَأْنِيثِ، فَالمُرادُ بِـ "رُّحْمًا" بِضَمَ الرَّاءِ هُنَا الرَّحْمَةُ، وَقدْ يُرادُ بِها الرَّحِمُ، وَعَلَيْهِ فَـ "أَقْرَبَ رُحْمًا"، أَيْ أَوْصَلَ لِرَحِمِهِ، وَأَحْفَظَ لِحَقِّ الأُبُوَّةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: رُحْمًا: مَوَدَّةً فَأُبْدِلَا جَارِيَةً وَلَدَتْ نَبِيًّا. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمَا بُدِّلَا جَارِيَةً، وقَالَ الْكَلْبِيُّ: فَتَزَوَّجَهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَوَلَدَتْ لَهُ نَبِيًّا، فَهَدَى اللهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ. وقال قَتَادَةُ: وَلَدَتِ اثَّنَيْ عَشَرَ نَبِيًّا، وَروِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْضًا أَنَّ أُمَّ الْغُلَامِ يَوْمَ قُتِلَ كَانَتْ حَامِلًا بِغُلَامٍ مُسْلِمٍ، وَكَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَفِي رِوَايَةٍ عنِ ابْنِ عباسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَبْدَلَهُمَا اللهُ بِهِ جَارِيَةً وَلَدَتْ سَبْعِينَ نَبِيًّا، وَقَالَهُ أَيضًا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ العُلَمَاءُ: وَهَذَا بَعِيدٌ وَلَا تُعْرَفُ كَثْرَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ لَمْ تَكُنْ فِيهِمْ.
وَأَمَّا الغُلامُ المَقْتُولُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فقيلَ: هوَ "جَيْسُور" بالجيمِ، وقيلَ: "حَيْسُورُ" بِالْحَاءِ، وَقيلَ: "حَيْسُونُ"، واللهُ أعلمُ.
وَالمُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هو تَهْوِينُ الْمَصَائِبِ بِفَقْدِ الْأَوْلَادِ، وَإِنْ كَانُوا قِطَعًا مِنَ الْأَكْبَادِ، وَمَنْ سَلَّمَ لِقَضَاءِ اللهِ ـ تَعَالَى، أَسْفَرَتْ عَاقِبَتُهُ عَنِ الْيَدِ الْبَيْضَاءِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} الفاء: حرفُ عَطْفٍ، و "أَرَدْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" الجماعةِ، وهي ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، والجُملةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "خَشَينَا" على كونِها في محلِّ الرَّفعِ. و "أَنْ" حرفٌ ناصِبٌ مَصْدَريٌّ. وَ "يُبْدِلَهُمَا" فعلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بها، و "هُما" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ. و "رَبُّهُمَا" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، و "هما" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. و "خَيْرًا" مَفْعُولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ. و "مِنْهُ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالمفعولِ الثاني "خَيْرًا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلى المَفْعُولِيَّةِ لِـ "أَرَدْنَا"، والتقديرُ: فَأَرَدْنَا إِبْدَالَ رَبِّهِمَا إِيَّاهُمَا خَيْرًا مِنْهُ. "زَكَاةً}: تَمْيِيزٌ لاسْمِ التَفْضِيلِ مَنْصُوبٌ بِهِ. و "أَقْرَبَ" مَعْطُوفٌ عَلَى "خَيْرًا" منصوبٌ مثلُهُ. و "رُحْمًا" تَمْييزٌ لِـ "أَقْرَبَ" مَنْصوبٌ بِهِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {أَنْ يُبَدِّلَهُما} بِفَتْحِ الباءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ، وهوَ مِنَ بَدَّل يُبَدِّلُ تَبْدِيلًا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ "أَنْ يُبْدِلَهما" بِسُكُونِ الباءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ، مِنَ أَبْدَلُ يُبْدِلُ إِبْدَالًا. وهُمَا لُغَتانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الإِبْدَالُ تَنْحِيَةُ جَوْهَرَةٍ، وَاسْتِئْنَافُ أُخَرَى. وأَنْشَدَ للشَّاعِرِ الراجِزِ أَبي النَّجْمِ، الفَضْلُ بْنُ قُدامَةَ العجْليِّ، وَهُوَ مِنْ رُجَّازِ الإِسْلامِ في العَصْرِ الأُمَوِيِّ:
نَحَّى السُّدَيْسَ فَانْتَحَى للمَعْدَلِ ............. عَزْلَ الأميرِ للأمَيرِ المُبْدَلِ
قال: أَلَا تَرَاهُ نَحَّى جِسْمًا، وَجَعَلَ مَكَانَهُ آخَرَ. وَالتَبْديلُ: تَغْيِيرُ الصُّورَةِ إِلَى غَيْرِها، والجَوْهَرَةُ بِاقِيَةٌ بِعَيْنِها. واحْتَجَّ الفَرَّاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورةِ الفُرْقانِ: {يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} الآية: 70، قَالَ: وَالذي قَالَ ثَعْلَب حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّهم يَجْعَلون اَبْدَلْتُ بِمَعْنَى بَدَّلْتُ. وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ العلماءُ في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ إبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ} الآيةَ: 48، هَلْ يَتَغَيَّرُ الجِسْمُ وَالصِّفَةُ، أَوِ الصِّفَةُ دُونَ الجِسْمِ.
قرأَ الجمهورُ: {رُحْمًا} بِضَمَّةٍ فَسُكونٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عامِرٍ "رُحُمًا" بِضَمَّتَيْنِ. وَهُمَا بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ. قالَ الراجِزُ رُؤْبَةُ بْنُ العجَّاجِ:
يَا مُنْزِلَ الرُّحْمِ عَلى إِدْريسا .................. وَمُنْزِلَ اللَّعْنِ عَلَى إِبْليسا
وَقِيلَ: الرُّحْم بِمَعْنَى الرَّحِمِ ـ كما تَقَدَّمَ في مَبْحَثِ التَّفسيرِ. وَهُوَ لائقٌ هُنَا مِنْ أَجْلِ القَرابةِ بالوِلادَةِ. ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "رَحِمًا" بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الحاءِ. وقَالَ الشَّاعِرُ:
فَلا، ومُنَزِّلِ الفُرْقا، .............................. نِ مالَكَ عِندَها ظُلْمُ
وَكَيْفَ بِظُلْمِ جَارِيَةٍ ................................ وَمِنْهَا اللِّينُ وَالرُّحُمُ
واخْتَلَفَتِ الرِّواتُ في قراءةِ هَذِهِ الآيةِ عَنْ أَبي عَمْرِو بْنِ العلاءِ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ.