فأَتْبَعَ سببًا (85)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فأَتْبَعَ سببًا} أَيْ: فَأَرَادَ ذو القَرْنينِ بُلُوغَ المَغْرِبِ فَأَتْبَعَ "سَبَبًا" يُوصِلُهُ إِلَيْهِ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما: "فَأَتْبَعَ سَبَبًا" يَعْنِي: بِالسَّبَبِ المُنَزَّلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "فَأَتْبَعَ سَبَبًا" أَيْ: مَنْزِلًا وَطَريقًا مَا بَيْنَ المَشْرِقَ والمَغْرِبِ. وقالَ في رِوَايَةٍ أُخرى عنْهُ: "سَبَبًا" طَريقًا فِي الأَرْضِ. ورويَ عنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قولُهُ: أَيْ: اتَّبَعَ مَنَازِلَ الأَرْضِ وَمَعَالِمَهَا. وَقالَ الضَّحَّاكُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "فَأَتْبَعَ سَبَبًا" أَيْ: المَنَازِلَ. وَقَالَ سَعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: فِي قَوْلِهِ: "فَأَتْبَعَ سَبَبًا" قالَ: عِلْمًا. وهوَ قولُ عِكْرِمَةَ وَعبيدِ بْنِ يَعْلَى، والسُّدِّيِّ. وقيلَ: "سَبَبًا" أيْ: مَعَالِمَ وَآثَارَ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَلَعَلَّ قَصْدَهُ بُلُوغَ المَغْرِبِ كانَ ابْتِداءً مِنْهُ، لِأَنَّهُ الأَقْرَبُ إِلَيْهِ؛ وَقِيلَ: بَلْ كانَ ذَلِكَ لِمُرَاعَاةِ الحَرَكَةِ الشَّمْسِيَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِكَوْنِ جِهَةِ المَغْرِبِ أَفْضَلَ مِنْ جِهَةِ المَشْرِقِ ـ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ المَغَارِبَةِ، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ جَلالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ: لَا أَقْطَعُ بِتَفْضِيلِ إِحْدَى الجِهَتَيْنِ عَلَى الجِهَةِ الأُخْرَى لِتَعَارُضِ الأَدِلَّةِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {فأَتْبَعَ سببًا} الفَاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ للتَفْريعِ، وَقِيلَ هي الفصيحةُ، وَ "أَتْبَعَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى ذِي القَرْنَيْنِ. و "سَبَبًا" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ، والجُمْلَةُ: مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ "آتَيْنَاهُ". على كونِها في محلِّ الرَّفعِ، مُفَرَّعَةٌ عليها.
قَرَأَ الجُمهورُ: {فَأَتْبَعَ} بهمزةِ قَطْعٍ وتاءٍ مخفَّفَةٍ بعدَها، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ "فَاتَّبَعَ" بِهَمْزَةِ الوَصْلِ وَتَشديدِ التَّاءِ، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي كلِّ مَا سَيَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ.
واسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ المُفردَتَيْنِ هما بِمَعْنَى واحِدٍ، وَهما تَتَعَدَّيانِ لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ "أَتْبَعَ" بِالقَطْعِ يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، وَالتَقْديرُ هُنَا: فَأَتْبَعَ سَبَبًا سَبَبًا آخَرَ، أَوْ فَأَتْبَعَ أَمْرَهُ سَبَبًا، وهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ القَصَصِ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} الآيَةَ: 42.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: "اتَّبَعَ" بِالْوَصْلِ فِي السَّيْرِ، وَ "أَتْبَعَ" بِالْقَطْعِ، مَعْنَاهُ اللَّحَاقُ، وهوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الصافَّاتِ: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} الآيةَ: 10.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: "أَتْبَعَ" بِالقَطْعِ للمُجِدِّ المُسْرِعِ الحَثيثِ الطَّلَبِ، وَ "اتَّبَعَ" بِالوَصْلِ، إِنَّمَا يَتَضَمَّنُ مُجَرَّدَ الانْتِقَالِ وَالاقْتِفَاءِ. واللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.