قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا
(26)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا} المَعْنَى: إِنْ نَازَعُوكَ فِي مُدَّةِ لَبْثِ الفِتْيَةِ فِي كَهْفِهم، فَقُلْ: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ، وَقَدْ أَخَبَرَ بِمُدَّةِ لَبْثِهِمْ، والأَصَّحُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَنْ مُدَّةِ لَبْثِهِمْ فِي الكَهْفِ. وَقِيلَ إِنَّ أَهْلَ الكِتَابِ قَالُوا إِنَّ المُدَّةَ مِنْ حِينِ دَخَلُوا الكَهْفَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا ثَلاثُمِئَةٍ وَتِسْعُ سِنِينَ، وَهوَ اجْتِمَاعُ أَهْلِ الكِتَابِ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ قائلًا: "قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" يَعْنِي بَعْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، إِلَى يَوْمِنَا هَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ ـ تَعَالَى.
قولُهُ: {لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ: لَهُ عِلْمُ مَا غَابَ عَنْ أَهْلِ السَمَاواتِ وَأَهْلِ الأَرْضِ؛ فَالْغَيْبُ مَا يَغِيبُ عَنْ إِدْرَاكٍ وَاللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَغِيبُ عَنْ إِدْرَاكِهِ شَيْءٌ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي الآيَةِ: 73، مِنْ سَورَةِ الأَنْعَامِ: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير}. أَوْ لَهُ عِلْمُ مَا غَيَّبَ أَهْلُ السَّمَاواتِ والأَرْضِ وَ أَسَرَّ بِهِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. ويَجُوزُ أَنَّ لَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، عِلْمُ غَيْبِ مَا شاَهَدَ أَهْلُ السَّمَاواتِ وأَهْلُ الأَرْضِ؛ لِأَنَّ فِيمَا شَاهَدُوا مِنَ الأَشْيَاءِ وَعَايَنُوهَا غَيْبًا وَسِرِّيَّةً لَمْ يَعْلَمُوهُ، كالشَّمْسِ شَاهَدوهَا وَعَرَفُوا أَنَّهَا شَمْسٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْلَمُوا مَا فِيهَا مِنَ المَعْنَى الذي بِهِ صَلاحُ الأَشْيَاءِ ومَنَافِعُهَا، وكَذَلِكَ القَمَرُ والنُّجُومُ وغَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا شَاهَدُوا هَذِهِ الأَشْياءَ، ولَكِنْ لِمْ يَعْرِفُوا المَعْنَى الذي بِهِ صَارَتْ نَافِعَةً لِلْأَشْيَاءِ وَمَصْلَحَتِهَا، وكَذَلِكَ السَّمْعُ وَالبَصَرُ والعَقْلُ وَنَحْوِها مِنَ الحَوَاسِ، فقد عَرَفوها عَلَى ظَوَاهِرِهَا، إلَّا أَنَّهُمْ ما عَرَفُوا كيفَ يَسْمَعُونَ بها وَيُبْصِرُونَ وكيفَ يدركونَ وكيفَ يَفْهَمُونَ، إِذًا فَلَهُ ـ تَعَالَى، عِلْمُ مَا غَابَ عَنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ التي شَاهَدْتُمُوهَا، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} هيَ صِيغَةٌ للتَّعَجُبِ بِمَعْنَى مَا أَبْصَرَهُ، عَلَى سَبِيلِ المَجَازِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يسمعُ ويُبْصِرُ لا بِجارِحَةٍ، كَمَا هُوَ الحَالُ بالنِّسْبةِ لِمَخْلُوقَاتِهِ، لأَنَّ أَداةَ السمعِ والإبْصارِ مِنْ صفةِ الحوادِثِ، أمَّا اللهُ تَعَالَى فإنَّهُ مُنَزَّهٌ أَنْ يكونَ كذلكَ لقولِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 11، مِنْ سُورَةِ الشُّورَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير}، ثُمَّ إِنَّنا لا نَسْمَعُ كلَّ الأَصْوَاتِ، ولا نُبْصِرُ كُلَّ المُبْصَراتِ، بَيْنَمَا اللهُ ـ تَعَالى يسمعها ويبصرُها جميعًا دونَ جارحةٍ. والأَصَحُّ أَنَّ لفْظَا "أَبْصِرْ" و "وَأَسْمِعْ" جاءَا بصيغةِ الأَمْرِ ومَعْناهما الخَبَرُ، والباءُ في "بِهِ" مَزيدَةٌ فِي الفاعِلِ إِصْلاحًا لِلَّفْظِ. وقيلَ إِنَّ الفاعِلَ هُوَ ضَميرُ المَصْدَرِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ ضَمِيرُ المُخَاطَبِ. وَقَيلَ: هُوَ أَمْرٌ حَقِيقَةً ولَيسَ تَعَجُّبًّا، وَأَنَّ الهاءَ مِنْ "بِهِ" تَعُودُ عَلَى الهُدَى المَفْهُومِ مِنَ الكَلامِ. أَيْ: مَا أَبْصَرَ اللهَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَأَسْمَعَهُ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ! إِذْ: لَا يَغِيبُ عَنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ شَيْءٌ. وَهُوَ وَصْفٌ لَهُ عَلَى النِّهَايَةِ في السَّمع والبَصَرِ، فإِذَا بَلَغَ امْرُؤٌ غَايَةَ الكرَمِ، قِيلَ: أَكْرِمْ بِهِ، وإِذَا بَلَغَ الغَايَةَ فِي الحُسْنِ، قِيلَ: أَحْسِنْ بِهِ؛ وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: "أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ" صِيغَتَا تَعْجِيبٍ مِنْ عُمُومِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْمُغَيَّبَاتِ مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ. ويُقَالُ أَيْضًا: مَا أَعْلَمَهُ، وَمَا أَبْصَرَهُ، وَمَا أَكْرَمَهُ، وَمَا أَحْسَنَهُ، وَمَا أَجْمَلَهُ، وَهَكَذَا .. ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَبْصِرْهُمْ وَأَسْمِعْهُمْ مَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ" قَالَ: اللهُ يَقُولُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمَعَ" قَالَ: لَا أَحَدٌ أَبْصَرُ مِنَ اللهِ، وَلَا أَسْمَعُ، تبَارك وَتَعَالَى. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَالْحَمْد للهِ رَبِّ العالَمينَ.
يُعْلِمُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الجُملةِ المُبَارَكَةِ عِباَدَهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا غَابَ عَنِ الخَلْقِ، وَمَا شَاهَدُوهُ. وَ "أَبْصِرْ بِهِ" مِنَ الأَفْعَالِ الَّتي يَفْعَلونَ، وَ "أَسْمِعْ بِهِ" مِنَ الأَقْوالِ الَّتي يَتَفَوَّهونَ، أَيْ: يَعْلَمُ مَا غَابَ عَنْهُمْ مِمَّا لَمْ يَفْعَلوا، وَلَمْ يَقولُوا، فَالذي قَالُوهُ وَفَعَلوهُ أَحَقُّ أَنْ يُعْلَمُ؛ فَإِنَّ الحَقَّ تَعَالى يُحَذِّرُهم في هَذِهِ الآيةِ المُباركةِ بالعذابِ الشَّديدِ إِذا لَمْ يُقْصِروا عَنْ أَفْعالِهم وَأَقْوالِهِم، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} أَيْ: مَا لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى نَاصِرٌ. أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلِيٌّ يَتَوَلَّى حِفْظَهُمْ دُونَ اللهِ. أَوْ مَا لِهَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ وَلِيٌّ دُونَ اللهِ يَتَوَلَّى تَدْبِيرَ أَمْرِهِمْ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ أَعْلَمَ مِنْهُ، أَوْ كَيْفَ يَتَعَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ إِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ. فَيَكونُ الضَّمِيرُ فِي "لَهُمْ" عائدًا عَلَى مَعَاصِرِي سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الْكُفَّارِ والمُشْرِكينَ.
قولُهُ: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} أَيْ: لَا يُشْرِكُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ أَحَدًا. وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ، أَيْ: الحُكْمِ لَهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ دُونَهُ حُكْمٌ، إِنَّمَا عَلَيْهِمْ طَلَبُ حُكْمِ اللهِ فِيمَا يَحْكُمُونَ. أَوْ لَا يُشْرِكُ فِي تَقْديرِهِ وتَدْبِيرِهِ الذي يُدَبِّرُ فِي خَلْقِهِ أَحَدًا. ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ المُرادُ وَلَا يُشْرِكُ فِي قِسْمَتِهِ التِّي يَقْسِمُ بَيْنَ الخَلْقِ أَحَدًا، أَوْ لَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَدَعَتِ الخَلْقَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: "الْحُكْمُ" هَنَا عِلْمُ الْغَيْبِ أَيْ: لَا يُشْرِكُ فِي عِلْمِ غَيْبِهِ أَحَدًا.
واخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ هَلْ مَاتُوا وَفَنَوْا، أَمْ هُمْ نِيَامٌ وَأَجْسَادُهُمْ مَحْفُوظَةٌ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ مَرَّ بِالشَّامِ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ مَعَ نَاسٍ عَلَى مَوْضِعِ الْكَهْفِ وَجَبَلِهِ، فَمَشَى النَّاسُ مَعَهُ إِلَيْهِ، فَوَجَدُوا عِظَامًا، فَقَالُوا: هَذِهِ عِظَامُ أَهْلِ الْكَهْفِ. فَقَالَ لَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُولَئِكَ قَوْمٌ فَنَوْا وَعُدِمُوا مُنْذُ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَسَمِعَهُ رَاهِبٌ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ يَعْرِفُ هَذَا، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا ابْنُ عَمِّ نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى بْنُ وَهْبٍ وغيرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَيَحُجَّنَّ عِيسَى بن مَرْيَمَ وَمَعَهُ أَصْحَابُ الْكَهْفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحُجُّوا بَعْدُ". ذَكَرَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وابْنُ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسيُّ المُحاربيُّ في تَفْسِيرِهِ المُسمَّى: (المُحرَّرُ الوَجيزِ في تفسيرِ الكتابِ العزيزِ): (3/511)، وَغَيْرُهُ. وَقيلَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ والإِنْجيلِ أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّهُ يَمُرُّ بِالرَّوْحَاءِ حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ يَجْمَعُ اللهُ لَهُ ذَلِكَ، فَيَجْعَلُ اللهُ حَوَارِيَّهُ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ، فَيَمُرُّونَ حُجَّاجًا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحُجُّوا وَلَمْ يَمُوتُوا. وَقَدْ ذَكَرَ القُرْطُبيُّ هَذَا الْخَبَرَ بِكَمَالِهِ فِي كِتَابِ "التَّذْكِرَةِ". فَعَلَى هَذَا هُمْ نِيَامٌ وَلَمْ يَمُوتُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بَلْ يَمُوتُونَ قُبَيْلَ السَّاعَةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا} قُلِ: فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ، وَحُرِّكَ بالكسْرةِ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ، و "أَعْلَمُ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قُل". و "بِما" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "أَعْلَمُ"، و "ما" مَوْصُولَةٌ مبنيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، أَوْ هِيَ نَكِرَةٌ مَوْصوفةٌ، و "لَبِثوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ بالفاعليَّةِ، والأَلِفُ للتفريقِ، وَالجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "ما" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، إِنْ أُعْرِبتْ نَكِرةً مَوْصُوفَةً، وَالعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ والتقديرُ: بِالزَّمَنِ الذي لَبِثُوهُ. ويجوزُ أَنْ تكونَ "ما" مَصْدَريَّةً فيكونُ المَصْدَرُ المُؤَوَّلُ منْ "مَا لَبِثُوا" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِالباءِ مُتَعَلِّقٌ بالخبَرِ "أَعْلَمُ".
قولُهُ: {لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} لَهُ: اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ متَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وَهَذِهِ اللامُ للمُلْكِ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ للهِ لَا لِغَيْرِهِ، وذَلِكَ رَدًّا عَلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ عِلْمَ خَبَرِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَنَحْوِهِمْ. والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ، في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهذا الضميرُ عائدٌ للهِ تَعَالى. وَ "غَيْبُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، وهو مُضافٌ، و "السَّماواتِ" مَجْرُورٌ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. وَ "الْأَرْضِ" مَعْطوفٌ بالواوِ عَلَى "السَّماواتِ"، مَجْرورٌ مِثْلُهُ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أَبْصِرْ: فِعْلُ تَعَجُّبٍ لَفْظُهُ لَفْظُ الأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ الخَبَرُ، والباءُ: فِي "بِهِ" زَائدَةٌ فِي الفاعِلِ إِصْلاحًا لِلَّفْظِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَحَلُّهُ القَريبُ الجَرُّ بِحرفِ الجرِّ الزائدِ، ومَحَلُّهُ البَعيدُ الرَّفْعُ عَلَى الفَاعِلِيَّةِ. و "أَسْمِعْ" مَعْطوفٌ بالواوِ عَلَى "أَبْصِرْ"، ولهُ مثلُ إِعْرابهِ، وَجُمْلَةُ التَعَجُّبِ هَذِهِ جُمْلَةٌ إِنْشائِيَّةٌ، لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} مَا: نَافِيَةٌ. و "لَهُمْ" الَّلامُ: حَرْفُ جَرٍّ، متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، وهذا الضَميرُ عائدٌ عَلَى مُعَاصِرِي رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةٍ: (وَتَكونُ الآيَةُ اعْتِراضًا بِتَهْديدٍ). كَأَنَّهُ يَعْني بِالاعْتِراضِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ سَبَقَ الكلامُ لِأَجْلِهِمْ، وَلَا يُريدُ الاعْتِراضَ الصِّنَاعِيِّ. والميمُ لتَذْكيرِ الجمعِ. وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "وَلِيٍّ"، وَ "دُونِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ زَائدٍ، وَ "وَلِيٍّ" مَجْرُورٌ لَفْظًا بِحَرْفِ الجَرِّ الزِّائدِ، مَرْفوعٌ مَحَلًا عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَرْفوعًا محلًّا عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُهُ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فَلَيْسَ لَهَا مَحَلَّ مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} الواوً: عَاطِفَةٌ، و "لا" نَافِيَةٌ، و "يُشْرِكُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى. و "فِي" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُشْرِكُ"، و "حُكْمِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "أَحَدًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ، على كونِها مُسْتَأْنَفةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} عَلَى الأَمْرِ، وَقَرَأَ عِيسَى: "أَسْمَعَ بِهِ وأَبْصَرَ" فعْلًا مَاضِيًا، والفاعِلُ اللهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الهاءُ في "بِهِ"، أَيْ: أَبْصَرَ عِبَادَهُ وأَسْمَعَهُمْ.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {وَلَا يُشْرِكْ} بِالْيَاءِ أَيْ: لَا يُشْرِكُ اللهُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا، فهوَ نَفْيٌّ مَحْضٌ، وقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَيَعْقُوبُ: "وَلَا تُشْرِكْ" بِالتَّاءِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ وَالنَّهْيِ، وإسْكانِ الكافِ على أَنَّهُ خطابٌ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ "وَلا تُشْرِكُ" عِطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: "أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ". وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: "وَلَا يُشْرِكْ" بالياءِ مِنْ تَحْتُ وَالجَزْمِ. قالَ يَعْقُوبُ: "لَا أَعْرِفُ وَجْهَهُ. قالَ السَّمينُ: وَجْهُهُ أَنَّ الفاعِلَ ضَميرُ الإِنْسانِ، أُضْمِرَ للعِلْمِ بِهِ.