وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا
(35)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} قِيلَ: أَخَذَ بِيَدِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ يَطِيفُ بِهِ فِيهَا وَيُرِيهِ إِيَّاهَا، وَمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنِ الْبَهْجَةِ وَالنَّضَارَةِ وَالْحُسْنِ.
وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِدُخُولِ ذَلِكَ الْكَافِرِ جَنَّتَهُ، فَقَدْ يَكونُ قَصَدَ فِي الْإِخْبَارِ أَنَّهُ دَخَلَ إِحْدَى جَنَّتَيْهِ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَهُمَا مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وإِنَّمَا أَفْرَدَ بَعْدَ التَثْنِيَةِ اكْتِفَاءً بِالواحِدِ للعِلْمِ بالحَالِ والواقِعِ. قالَ العُكْبُرِيُّ أَبُو البَقَاءِ: كَمَا اكْتُفِيَ بِالوَاحِدِ عَنِ الجَمْعِ فِي قَوْلِ الشاعِرِ أَبي ذُؤيْبٍ الهُذَلِيِّ:
فالعَيْنُ بَعْدَهُمُ كَأَنَّ حِداقَهَا ............. سُمِلَتْ بِشَوْكٍ فَهْيَ عُورٌ تَدْمَعُ
وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ جَمْعَ التَكْسِيرِ يَجْري مَجْرَى المُؤْنَّثِ، فالضَّمِيرُ في "سُمِلَتْ" وَفي "فَهِيَ" يَعُودُ عَلَى "حِداقِها" لَا عَلَى حَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا تَوَهَّم. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ أَفْرَدَ الجَنَّةَ بَعْدَ التَثْنِيَةِ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ: وَدَخَلَ مَا هُوَ جَنَّتُهُ، مَالَهُ جَنَّةٌ غَيْرُهَا، بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ فِي الجَنَّةِ التي وُعِدَ بِهَا المُتَّقُونَ. فَمَا مَلَكَهُ في الدُّنْيا هُوَ جَنَّتُهُ لا غَيْر، ولم يَقْصِدْ الجَنَّتَيْنِ وَلَا واَحِدَةً مِنْهُمُا. قالَ أَبو حَيَّان الأندلُسَيُّ: وَلَا يُتَصَوَّرُ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "وَدَخَلَ جَنَّتَهُ" إِخْبارٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا الكَافِرَ دَخَلَ جَنَّتَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ قَصَدَ فِي الإِخْبَارِ أَنَّه دَخَلَ إِحْدَى جَنَّتَيْهِ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَهُمَا مَعًا في وَقْتٍ وَاحِدْ. قالَ السَّمينُ: وَمَتَى ادَّعَى دُخُولَهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؟ يُلْزِمَهُ بِهَذا المُسْتَحِيلِ فِي البِدايَةِ. وأَمَّا قولُهُ (وَلَمْ يَقْصِدِ الجَنَّتَيْنِ، وَلا وَاحِدَةً) مَعْنَاهُ لَمْ يَقْصِدْ تَعْيِينَ مُفْرَدٍ وَلَا مُثَنَّى لَا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الإِخْبَارَ بِالدُّخُولِ. وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ: إِنَّمَا أَفْرَدَ لِأَنَّهُمَا جَميعًا مِلْكُهُ فَصَارَا كَالْشَيْءِ الوَاحِدِ. وَقَدْ تَكونُ جَنَّةً وَاحِدَةً كَمَا قَدَّمْنَا فِي تَفْسيرِ الآيَةِ: 32، السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُبارَكَةِ.
قولُهُ: {وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} ظالِمٌ لِنَفْسِهِ: بِكُفْرِهِ بِرَبِّهِ، وَتَمَرُّدِهِ عَلى مَوْلاهُ، وتَكَبُّرِهِ وَتَجَبُّرِهِ عَلى عِبَادِ اللهِ، وإِنْكَارَهِ المَعَادَ والرُّجوعَ إِلى مَنْ خَلَقَهُ ورَزَقَهُ ورَعَاهُ. وَمَنْ أَدْخَلَ نَفْسَهُ النَّارَ بِكُفْرِهِ فَقدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وهوَ أَفْحَشُ الظُّلْمِ وَأَشْنَعُهُ. يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالى في الآيةِ: 13، مِنْ سُورَةِ لُقْمَانَ: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ" يَقُولُ: كَفُورٌ لِنِعْمَةِ رَبِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: (يَعْنِي خَارِجًا عَنِ الإِيمانِ إِلَى الكُفْرِ بِاللهِ). قالَ الزَّجَّاجُ: وَكُلُّ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ فَنَفْسَهُ ظَلَمَ، لأَنَّهُ يُولِجُها النَّارَ، وَأَيُّ ظُلْمٍ للنَّفْسِ فَوْقَ هَذَا؟: (مَعانِي القُرْآنِ وإعرابُهُ) لَهُ: (3/285).
قَوْلُهُ: {قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا} أَيْ: فَقَالَ صَاحِبُ الجَنَّتَيْنِ مُجَادِلًا صَاحِبَهُ الذي نَصَحَهُ: ما أَظُنُّ أَنْ تَفْنَى جنَّتي هَذِهِ أَوْ تَتْلَفَ أَبَدًا. فَـ "تَبِيد" تَتَلَفُ، وتَهْلِكُ، وتَمُوتُ زُرُوعُها وأَشْجارُها، قَالَ الشَّاعِرُ مِنَ المُقْتَضَبِ:
فَلَئِنْ بادَ أَهْلُهُ ........................................ لَبِمَا كَانَ يَوْهَلُ
أَيْ: فَلَئِنْ هَلَكَ أَهْلُهُ. وَيُقالُ: بَادَ يَبِيدُ بُيُودًا وَبَيْدودَةً، ك "كَيْنُونَةٍ" والعَمَلُ فِيهَا مَعْرُوفٌ وَهُوَ أَنَّهُ حُذِفَتْ إِحْدَى الياءَيْنِ، وَوَزْنُها فَيْعَلُولَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا" يَقُولُ: تَهْلِك.
وَالأَبَدُ والأَمَدُ: الدَّهْرُ، والمُرادُ بِهِ هُنَا: المُكْثُ الطَّويلُ، وَهُوَ مُدَّة حَيَاتِهِ، لَا الدَّوامُ المُؤَبَّدُ، إِذْ لَا يَظُنُّهُ عَاقِلٌ لِدَلالَةِ الحِسِّ والحَدْسِ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الدُنْيَا ذَاهِبَةٌ منقضيةٌ بِاطِلَةٌ. أَوْ أَنَّ المُرَادَ هُوَ طُولُ مُدَّةِ بَقائهَا ظَلِيلَةً خَضِيلَةً خَصِيبَةً مُثْمِرَةً سَلِيمَةٌ مِنَ الآفاتِ لَا يَعْتَرِيهَا مَا يُتْلِفها ويُفْنِيهَا وَيُبِيدُهَا.
وَهَذَا اغْتِرَارٌ مِنْهُ بِغِنَاهُ وبِمَا لِتِلْكَ الْجَنَّةِ مِنْ وُثُوقِ الشَّجَرِ وَقُوَّتِهِ وَثُبُوتِهِ وَاجْتِمَاعِ أَسْبَابِ نَمَائِهِ وَدَوَامِهِ، كَوَفْرَةِ المِيَاهِ وغَيْرِه. وَذَلِكَ لِمَا رَأَى فِيها مِنَ الزُّرُوعِ والثِّمَارِ وَالأَشْجَارِ وَالأَنْهَارِ في جَوَانِبِهَا وأَرْجائِها، فظَنَّ أَنَّها لا تَفْنَى ولَا تَهْلِكُ وَلَا تَتْلَفُ.
قَالَ ذَلِكَ لَمَّا غَشَّى عَلى عَقْلِهِ حُبُّ الدُّنْيا والعُجْبُ بِهَا، لِضَعْفِ يَقِينِهِ بِاللهِ، وإِعْجَابِهِ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَكُفْرِهِ بِالآخِرَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، فَقَدْ أَنْكَرَ الفَنَاءَ الذي حَقِيقَةٌ ماثلةٌ للعَيْنِ في كلِّ مجالٍ وكلِّ وقتٍ. لقد كَانَ هَذَا مِنْهُ بِمُقابَلَةِ مَوْعِظَةِ صَاحِبِهِ، وتَذْكِيرِهِ بِفَنَاءِ جَنَّتَيْهِ، وَنَهْيِهِ لَهُ عَنِ الاغْتِرارِ بِهِمَا، ونَصِيحَتِهِ لَهُ بَتَحْصِيلِ الباقياتِ الصَّالِحَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "دَخَلَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى صَاحِبِ الجَنَّتَيْنِ. و "جَنَّتَهُ" مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى السَّعَةِ، منصوبٌ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قوْلِهِ: {وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ}.
قوْلُهُ: {وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} الواوُ: حَالِيَّةٌ، وَ "هُوَ" ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِدَاءِ. وَ "ظَالِمٌ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ. و "لِنَفْسِهِ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ زَائدٍ، لكونِ العامل فَرْعًا، وَ "نَفْسِهِ" مَجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ الزَّائدِ لَفْظًا مَنْصُوبٌ محلًا على المَفْعُوليَّةِ لاسْمِ الفاعِلِ: "ظالِمٌ"، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنْ ضميرِ الفَاعِلِ لِـ "دَخَلَ".
قَوْلُهُ: {قالَ مَا أَظُنُّ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى صَاحِبِ الجَنَّةِ، والجُمْلةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ سَبَبِ الظُّلمِ، لا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ، وَهوَ الأَحْسَنُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ حَالًا مِنَ الضَّميرِ فِي "ظَالِمٌ"؛ أَيْ: وَهُوَ ظَالِمٌ فِي حَالٍ كَوْنَهُ قائِلًا كَذَا. و "ما" نَافِيَةٌ، و "أَظُنُّ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى فاعِلِ "دَخَلَ"، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لـ "قالَ".
قولُهُ: {أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا} أنْ: حرفٌ مَصْدَرِيٌّ نَاصِبٌ. وَ "تَبِيدَ" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بها، و "هذهِ" الهاءُ: للتنبيهِ، و "ذه" اسْمُ إِشارَةٍ مَبْنِيٌّ على الكَسْرِ في مَحَلِّ رَفْعِ فَاعِلِهِ. وَ "أَبَدًا" منصوبٌ على الظَرْفيَّةِ الزَمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِالفِعْلِ "تَبيدَ". وَالمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ "أَنْ تَبيدَ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ سادًا مَسَدَّ مَفْعٌولَيْ "أَظُنُّ"، والتقديرُ: مَا أَظُنُّ بَيْدَ هَذِهِ الجَنَّةِ وهَلاكَهَا أَبَدًا.