وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} الثَّمَرُ معروفٌ، وقُرِئَ: ثُمُرٌ ـ بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ، وتَعْنِي الْمَالَ الْكَثِيرَ الْمُخْتَلِفَ مِنَ النَّقْدَيْنِ، الذَّهَبِ والفِضَّةِ، كما تَشْمَلُ الْأَنْعَامَ وَالْجَنَّاتِ وَالْمَزَارِعَ. وهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الثَّمَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الْأَرْبَاحَ وَعَفْوَ الْمَالِ يُشْبِهَانِ في الانْتِفاعِ بِهِما ثَمَرَ الشَّجَرِ. وَقد شَاعَ هَذَا الْمَجَازُ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً. ومِنْهُ قَولُ النَّابِغَةِ الذُبْيَانِيِّ:
مَهْلًا فِدَاءٌ لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمْ ............... وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ
فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ثَمَّرَ فُلانٌ مَالَهُ ـ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَيُقَالُ: ثَمَّرَ اللهُ مَالَهُ، عَلَى سَبِيلِ الإِخْبَارِ عَنْهُ إِذَا كَثُرَ مَالُهُ ونَمَى، كَمَا يُقالُ: (ثَمَّرَ اللهُ مَالَهُ)، عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ لَهُ أَنْ يَبَارِكَ اللهُ لَهُ فِي مَالِهِ، وَأَنْ يَكْثُرَ مَالُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيانَ أَيْضًا:
فَلَمَّا رَأَى أَنْ ثَمَّرَ اللهُ مَالَهُ ................... وَأَثَّلَ مَوْجُودًا وَسَدَّ مَفَاقِرَهْ
قال الْجَوْهَرِيُّ: الثَّمَرَةُ وَاحِدَةُ الثَّمَرِ، وَالثَّمَرَاتِ، وَجَمْعُ الثَّمَرِ ثِمَارٌ، مِثْلُ: "جَبَلٍ" وَ "جِبَالٍ". قَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَمْعُ الثِّمارِ ثَمَرٌ، مِثْلُ: "كِتَابٍ" وَ "كُتُبٌ"، وَجَمْعُ الثُّمُرِ: أَثْمَارٌ، مِثْلُ "أَعْنَاقٍ" وَ "عُنُقٍ". وَالثَّمَرُ أَيْضًا الْمَالُ الْمُثَمَّرُ، يُخَفَّفُ وَيُثَقَّلُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ" يَقُولُ: مَالٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي يَزِيدٍ الْمَدَنِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: "وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ" قَالَ: الأَصْلُ، وَالثَّمَرُ: الثَّمَرَةُ.
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، "وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ" بِالضَّمِّ يَعْنِي أَنْوَاع المَالِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ" قَالَ: ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ بَشيرِ بْنِ عُبَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: "وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ" بِرَفْع الثَّاءِ، وَقَالَ: الثُّمُرُ المَالُ والوِلْدانُ وَالرَّقِيُّ، وَالثَّمَرُ: الْفَاكِهَة.
قولُهُ: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} وَالْفَاءُ: لِلتَفْريعِ عَلَى ما سَبَقَ، لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ لَهَذِهِ الجملةِ أَنْ يَنْشَأَ عَنْهُ غُرُورٌ بِالنَّفْسِ يَنْطِقُ صاحِبُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ القَوْلِ.
وَ "صَاحِبُهُ" هُنَا هوَ الْمُقَارِنِ لَهُ فِي الذِّكْرِ، حَيْثُ انْتَظَمَهُمَا خَبَرُ الْمَثَلِ، وقدْ يكونُ أُرِيدَ بِالصَّاحِبِ هنا الْمُلَابِسُ الْمُخَاصِمُ، كَمَا هوَ فِي قَوْلِ الْحَجَّاجِ بْنِ يوسُفٍ الثَّقَفيِّ مُخَاطِبًا الْخَوَارِجَ: (أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ)؟. فَالْمُرَادُ بِالصَّاحِبِ إِذًا ثاني الرَّجُلَيْنِ، أَيْ فَقَالَ: مَنْ لَيْسَ لَهُ جَنَّاتٌ، خلالَ حِوَارٍ دارَ بَيْنَهُمَا. وَعدَمُ ذِكْرِ سَبَبُ هَذَا القَوْلِ أَوِ المَكانِ الذي قيلَ فيهِ منْ أساليبِ البلاغةِ القرآنيَّةِ الرفيعةِ، وذاكَ لِعَدَمِ الحاجةِ إِلَى ذكرِهِما لأَنَّ المقصودَ هوَ الْمَوْعِظَةُ.
وَ "وَهُوَ يُحاوِرُهُ" أَيْ: وهو يُرَاجِعُهُ فِي الْكَلَامِ وَيُجَاوِبُهُ. لأَنَّ وَالْمُحَاوَرَةَ: هِيَ مُرَاجَعَةُ الْكَلَامِ بَيْنَ مُتَكَلِّمِينَ. وَالْمُحَاوَرَةُ الْمُجَاوَبَةُ، وَالتَّحَاوُرُ التَّجَاوُبُ، ومُرَاجَعَةُ الكَلامِ مِنْ حَارَ، أَيْ: رَجَعَ، قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الانْشِقاقِ: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَّنْ يَحُورَ} الآيةَ: 14، أَيْ: يَرْجِعَ. وَقَالَ امْرُؤُ القَيْسِ:
وَمَا المَرْءُ إِلَّا كالشِّهابِ وَضَوْئِهِ .......... يَحُوْرُ رَمادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ
وَيُقَالُ: كَلَّمْتُهُ فَمَا أَحَارَ إِلَيَّ جَوَابًا، وَمَا رَجَعَ إِلَيَّ حَوِيرًا، وَلَا حَوِيرَةً، وَلَا مَحُورَةً، وَلَا حِوَارًا، أَيْ: مَا رَدَّ لي جَوَابًا.
وَقد دَلَّ فِعْلُ الْمُحَاوَرَةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ وَعَظَهُ فِيما يتعلَّقُ بالْإِيمَانِ وَصَّالِحِ الأَعمالِ، فَأَجابَهُ بِالْفَخْرِ عَلَيْهِ، وَالتَّطَاوُلِ على الآخرينُ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الغَطْرَسَةِ، فيَعْدِلُونَ عَنِ الْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، مُظْهِرينَ الْتعَاظُمَ وَالْتَكَبُّرَ، والتَبَاهِي بِمَا أَسْبَغَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ، وكأنَّهمْ همُ الذينَ حازوها بِجُهُودِهم، أَوْ كَأَنَّها مِيزَةٌ لَّهُمْ مَيَّزَهُمُ اللهُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ الغُرُورُ الذي وَقَعَ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ، حَتَّى غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ.
قوْلُهُ: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} أَعَزُّ: أَشَدُّ عِزَّةً. وَالْعِزَّةُ: ضِدُّ الذُّلِّ. وَرُبَّما جاءَتْ بِكَثْرَةِ عَدَدِ عَشِيرَةِ الرَّجُلِ وَشَجَاعَتِهِ. وَ "النَّفَرُ": هُمْ عَشِيرَةُ الرَّجُلِ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ مَعَهُ. وَقد أَرَادَ بِهِمْ هُنَا وَلَدُهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مُقَابَلَتُهُ فِي جَوَابِ صَاحِبِهِ بعدَها بِقَوْلِهِ: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} الآيَةَ: 40، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركَةِ، وَذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْكُفَّارِ فِي فَخْرِهم بِكَثْرَةِ أَمْوالِهم، وَعَدَدِ عَشِيرَتِهم، فقد عَنَى بِالنَّفَرِ أَنْصَارَهُ وَحَشَمَهُ. وَقِيلَ: أَوْلَادًا ذُكُورًا لِأَنَّهُمْ يَنْفِرُونَ مَعَهُ دُونَ الْإِنَاثِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَخَاهُ بِقَوْلِهِ: وَأَعَزُّ نَفَرًا إِذْ لَوْ كَانَ أَخَاهُ لَكَانَ نَفَرُهُ وَعَشِيرَتُهُ نَفَرَ أَخِيهِ وَعَشِيرَتَهُ، وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ السَّابِقَيْنِ لَا يَرِدُ هَذَا. أَمَّا مَنْ فَسَّرَ النَّفَرَ بِالْعَشِيرَةِ التي هي مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَيَرِدُ. وَإنَّما كان تَكَبُّرُ أَهْلِ الشِّركِ دائمًا على مَرِّ العُصورِ، وَاغْتِرَارُهم بِمَا عندَهُم مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا ومَتَاعِها، كمَا قَالَ "عُيَيْنَةُ" وَ "الْأَقْرَعُ" لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَحْنُ سَادَاتُ الْعَرَبِ، وَأَهْلُ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ، فَنَحِّ عَنَّا سَلْمَانَ وَقُرَنَاءَهُ).
قولُهُ تَعَالَى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} الواو: عَاطِفَةٌ، و "كَانَ" فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ. و "لَهُ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بخبرِ كانَ مُقَدَّمًا عَلَى اسْمِها، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرَّ. و "ثَمَرٌ" اسْمُها مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ} على كونِها في مَحَلِّ الرَّفعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "آتى" عَلى كَوْنِها في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ "كِلْتَا".
قوْلُهُ: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "قالَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى صَاحِبِ الجَنَّتَيْنِ. وَ "لِصَاحِبِهِ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَالَ"، وَ "صَاحِبِهِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "كَانَ" عَلى كَوْنِها في مَحَلِّ الرَّفْعِ.
قوْلُهُ: {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} الواوُ: واوُ الحَالِ، وَ "هُوَ" ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ للمُفْرَدِ المُذَكَّرِ الغائبِ، مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، وَ يُحَاوِرُهُ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جَوَزًا تَقْديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلى صَاحِبِ الجَنَّتَيْنِ، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِالمَفْعُولِيَّةِ عائدٌ عَلى قولِه: "صَاحِبِهِ". وَجُمْلَةُ "يُحاوِرُهُ" جُمْلَةٌ فعليَّةٌ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا للمُبْتَدَأِ "هُوَ"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحَالِ، وهي جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ القَوْلِ المُحَاوَرَةُ؛ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنَ فاعِلِ "قالَ" أَوْ مِنَ مَفْعُولِهِ.