فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْرا
(74)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلامًا فَقَتَلَهُ} فَانْطَلَقا: تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنِ اعْتِذارِ سَيِّدِنَا مُوسَى للخَضِرِ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ قَبِلَ عُذْرَ مُوسَى، ووافَقَ عَلى مُتَابَعَةِ الصُّحْبَةِ، وَأَنَّهُما "انْطَلَقَا" مُتَصَاحِبَيْنِ. وَالغُلامُ: هوَ الفَتِيُّ السِّنِّ الذي نَبَتَ شَارِبُهُ، ويُطْلَقُ عَلَى الطِّفْلِ وَعَلَى الكَهْلِ مِنْ بابِ المَجازِ، فَأَمَّا الطِّفْلُ فَتَفاؤلًا بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، وأَمَّا الكَهْلُ فَبِاعْتِبَارِ مَا كانَ عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةِ تَمْدَحُ الحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ:
شَفاها مِنَ الدَّاءِ الذي قَدْ أَصابَها ............ غُلامٌ إِذَا هَزَّ القَنَاةَ شَفَاها
وقولُ صَفوانَ بْنِ المُعَطَّلِ، السُّلَمِيِّ، لِحَسَّانَ بْنِ ثابتٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهما، يَوْمَ حديثِ الإِفْكِ:
تَلَقَّ ذُبابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّني .......... غُلامٌ إِذا هُوجِيْتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ
وقيلَ: بَلْ هُوَ حَقيقَةٌ لا مَجَازًا لأَنَّهُ مِنَ الإِغْلامِ وَهُوَ السَّبْقُ، وإِنَّمَا يَكونُ ذلكَ في الرَّجُلِ المُحْتَلِمِ.
جَاءَ في الحديثِ المتقدِّمِ أَوَّلَ القِصَّةِ: أَنَّهُمَا حِينَ خَرَجَا مِنَ البَحْرِ يِمْشِيانِ مَرَّا بِغِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ، ومَا وقعتُ عينُ الخَضِرِ عليهم حتَّى أخَذَ أَكَثَرَ الغِلْمَانِ ظَرْفًا، وَأَحْسَنَهُمْ وَجْهًا، إِذْ كانَ وَجْهُهُ يَتَوَقَّدُ وَضَاءةً، فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينَ ـ كما في صَحِيحِ الإمامِ البُخارِيِّ. وَفي رِوَايةٍ أُخْرَى للبُخارِيِّ ومُسْلمٍ في صحيحَيْهِما، وَللتِرْمِذِيِّ في صَحِيحِهِ، والبَغَوَيِّ في تَفْسِيرِهِ: (3/207) إحياء التراث: أَنَّهُ أَخَذَ بِرَأْسِهِ فَاقْتَلَعَهُ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ بِيَدِهِ. وَنُقِلَ عَنْ الإمامِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، أَنَّهُ أَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَلاثِ: الإِبْهُامِ، والسَّبَّابَةِ، وَالوُسْطَى ـ عِنْدَ رِوَايَتِهِ هَذَا الخَبَرَ، ثُمَّ قال: وَقَلَعَ بِرَأْسِهِ. وَرَوَىَ غيرُهُ أَنَّهُ رَضَخَ رَأْسَهُ بِالحِجارَةِ. وَقِيلَ: ضَرَبَ رَأْسَهُ بِالجِدَارِ فَقَتَلَهُ. قالَ الإمامُ القرطبيُّ في تَفْسيرِهِ (الجامعِ لِأَحَكامِ القرآنِ: 11/21): وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَمَغَهُ أَوَّلًا بِالْحَجَرِ، ثُمَّ أَضْجَعَهُ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ اقْتَلَعَ رَأْسَهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ، وَحَسْبُكَ بِمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ".
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: كَانَ غُلَامًا لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ المفَسِّرِينَ، وَقَالَ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهُما: لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ اللهِ يَقُولُ: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً إِلَّا وَهُوَ صَبِيٌّ لَمْ يَبْلُغْ، وَقَالَ الْحَسَنُ البَصْريُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَانَ رَجُلًا. وَقَالَ شُعَيْبٌ الْجَبَّائِيُّ: كَانَ اسْمُهُ حَيْسُورَ. وَقَالَ الإمامُ الكَلْبِيُّ: كانَ فَتًى يَقْطَعُ الطَّريقَ، وَيَأْخُذُ الْمَتَاعَ، وَيَلْجَأُ إِلَى أَبَوَيْهِ. وَقَالَ الضَّحَاكُ: كَانَ غُلَامًا يَعْمَلُ بِالْفَسَادِ وَتَأَذَّى مِنْهُ أَبَوَاهُ. ورَوَى الإمامُ البَغَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ، في تَفْسيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهُما، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رضي اللهُ تَعَالى عنهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا)). وأَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدَهِ: (5/121، برقم: 21159)، وَمُسْلِمٌ في صحيحِهِ: (4/2050، برقم: 2661)، وَأَبو دَاوُدَ في سُنَنِهِ: (4/227، برقم: 4705)، وَالتَرْمِذِيُّ في جامعِهِ الصحيحِ: (5/312، بِرَقَمْ: 3150) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غريبٌ. وَابْنُ حِبَّانَ في صحيحِهِ: (14/108، بِرَقَم: 6221). وابْنُ جَريرٍ في تَفْسيرِهِ: (16/3).
وتَقْدِيمِ الظَّرْفِ "إِذَا" عَلَى الفِعْلِ "لَقِيَا" تَأْكِيدٌ لِلْمُبَادَرَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ فَعْلِ القَتْلِ، أَيْ: أَنَّهُ بِمَجَرِّدِ رُؤْيَتِهِ بادرَ بِقَتْلِهِ، يؤكِّدُ هذا الفهمِ فاءُ التعقيبِ في "فَقَتَلَهُ" فهوَ تَعْقِيبٌ لِفِعْلِ "لَقِيا"، فَقد كَانَتِ الْمُبَادَرَةُ بِقَتْلِ الْغُلَامِ عِنْدَ لِقَائِهِ أَسْرَعَ مِنَ الْمُبَادَرَةِ بِخَرْقِ السَّفِينَةِ حِينَ رَكِبِاهَا لأَنَّ فِعْلَ الخَرْقِ هُنَاكَ لَمْ يُسْبقْ بفاءِ التَّعْقيبِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا}، فَقَدْ يَكونُ خَرَقَهَا قَبْلَ وُصُولِهِم إِلَى المَلِكِ الذي يَحْجِزُ السُّفُنَ بِبُرْهَةٍ، وَقَدْ يَكونَ غَيْرَ ذَلِكَ، أَمَّا قَوْلُهُ ـ تَعَالَى، هُنَا "فَقَتَلَهُ" فَإِنَّ دُخُولَ فَاءِ التَّعْقِيبِ يُفيدُ أَنَّهُ قَتَلَهُ فوْرَ رُؤْيتِهِ لَهُ، أَيْ: أَنَّ الخَضِرَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمْ يَرَ مِنَ الغُلامِ مَا جَعَلَّهُ يُنْكرُهُ عَلَيْهِ، لِيَقْتُلَهُ عِقَابًا عَلَى ذَلِكَ أَوْ قِصاصًا مِنْهُ.
وَقالَ الإمامُ أَبو القاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (الكَشَّافِ): فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا في السَّفِينَةِ خَرَقَها} بِغَيْرِ فاءٍ، و "حَتَّى إِذَا لَقِيا غُلَامًا فَقَتَلَهُ" بالفاءِ؟. قُلْتُ: جَعَل "خَرَقَهَا" جَزَاءً للشَّرْطِ، وَجَعَلَ "قَتَلَهُ" مِنْ جُمْلَةِ الشَّرْطِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، والجَزَاءُ قَالَ: "أَقْتَلْتَ". فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خُولِفَ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الخَرْقَ لَمْ يَتَعَقَّبِ الرَّكوبَ، وَقَدْ تَعَقَّبَ القَتْلُ لِقَاءَ الغلامِ. تَفْسيرُ (الكَشَّافُ عَنْ حَقائِقِ غَوَامِضِ التَنْزيلِ) للزَّمَخْشَرِيِّ: (2/736). فَإِنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "أَلَمْ أَقُلْ لَكَ" هنا وَلَمْ يَأْتِ بِـ "لَكَ" مِعَ "إمْرًا". وَقِيلَ: "الإِمْرُ" أَبْلَغُ؛ لأَنَّ قَتْلَ عَدَدٍ مِنَ الأَنْفُسِ بِسَبَبِ الخَرْقِ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ وَاحِدَةِ. واللهُ تَعَالى أَعلمُ.
قوْلُهُ: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} أَيْ: أَتَقْتُلُ نَفْسًا طاهِرَةً لمْ تقترفْ إِثْمًا بِغَيْرِ أَنْ تَقْتُلَ هَذِهِ النَّفْسُ نَفْسًا غَيْرَهَا، فَيَحِلُّ قَتْلُها، مِمَّا يدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الحُكْمَ كانَ في شَريعةِ سَيِّدِنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَمَا هوَ في شَرِيعَةِ سيِّدِنا محمَّدٍ ـ عَلَيْهِ وآلِهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ المَعْنى: جِئْتَ بِشَيْءٍ نُكْرٍ، فَلَمَّا حُذِفَتِ الباءُ، أَفْضَى الفِعْلُ فَنَصَبَ نُكْرًا.
وَقَدَ جَرَى كَلَامُ سَيِّدِنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، هُنَا، فِي إِنْكَارِ مَا فَعَلَهُ الخَضِرُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ قَتْلِ الغُلامِ بغيرِ ذنبٍ اقْتَرَفَهُ، عَلَى نَسَقِ كَلَامِهِ قَبْلُ في الآيةِ السَّابِقةِ حينَ أَنْكَرَ عليهِ خَرْقَهُ السَّفِينَةِ، وَذَلِكَ حِينَ رَأَى مِنْهُ هَذا الفِعْلَ المُنْكَرَ في الشَّريعَةِ المنزَّلةِ عَلَيْهِ والَّتي كَلَّفهُ اللهُ بِتَبْليغِها للنَّاسِ، والعملِ بموجِبِها، والحكمِ بها بينَ العِبادِ، سِوَى أَنَّهُ وَصَفَهُ هُنَاكَ بالإِمْرِ، ووصَفهُ هُنَا بِالنُكْرِ.
والنَّفْسُ الزكيَّةُ هيَ النَّفْسُ الطَّاهِرَةُ مِنَ الآثامِ الَّتي لَمْ تَرْتَكِبْ ذَنْبًا ولمْ تَقْتَرِفْ إِثْمًا قَطُّ، وهِيَ الصالحةُ المُتَّصِفَةُ بالحَسَنِ مِنَ الصِّفاتِ، قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النُّورِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} الآيةَ: 21، أَيْ: ما صَلُحَ مِنْكم أَحَدٌ أَبَدًا.
وَلِلْمُفَسِّرينَ أَقْوَالٌ في النَّفْسِ الزَكِيَّةِ هذِهِ، فقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: بِأَنَّها التَّائِبَةُ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. ورُوِيَ عَنْ ابْنِ عبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا المُسْلِمَةَ. وَالمَعْنَى قَريبٌ، فَالتَّوْبَةُ عَنِ المَعَاصِي والآثامِ أَوَّلُ الطَّريقِ فِي الإِسْلامِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الزَّكِيَّةَ: الَّتي لَمْ تَبْلُغِ الخَطَايَا. وقَالَ قَتَادَةُ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّها هِيَ النَّامِيَةَ. وَقالَ ابْنُ الأَنْباريِّ: هيَ القَويمَةُ فِي تَرْكِيبِهَا. وَقالَ أَبو عُبَيْدَةَ: أَنَّها المُطَهَّرَةُ. وَقالَ الزَّجَّاجُ: بِأَنَّ النَّفسَ الزَّكِيَّةَ: هِيَ النَّفُسُ البَريئَةُ الَّتي لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا مَا يُوجِبُ قَتْلَها.
وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ العُلَمَاءِ بَيْنَ الزَّكِيَّةِ، والزَاكِيَةِ، فَرُوِيَ عَنْ أَبي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَوْلُهُ: الزَّكِيَّةُ: هيَ الَّتي أَذْنَبَتْ ثُمَّ تابَتْ، والزَّاكِيَةُ: هيَ الَّتي لَمْ تُذْنِبْ قَطُّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبي عُبَيْدَةَ قَولُهُ: الزَّكِيَّةُ فِي الدِّينِ، والزَّاكِيَةُ فِي البَدَنِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْرا} نُكْرًا: بضمَّةٍ فسُكونٍ، و "نُكُرًا" بِضَمَّتَيْنِ، في قراءةٍ: هُوَ ما تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ مِنْ أَمْرٍ وَتَسْتَقْبِحُهُ النُّفُوسُ، وَالنُّكْرُ أَشَدُّ مِنَ "إِمْرا" الذي وَصَفَ بِهِ موسَى فِعْلَ الخَضِرِ هُنَاكَ حِينَ خَرَقَ السَّفِينَةِ، فَقَتْلُ النَّفْسِ الزكيَّةِ الَّتي لَمْ تَرْتَكِبْ ذَنْبًا لِكَوْنِها نَفْسَ غُلامٍ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، هوَ أَشدُّ فَظاعَةً مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ، لِأَنَّ هَذا الفعْلَ فَسَادٌ مُحَقَّقٌ، وجَريمَةٌ حَاصِلَةٌ بَيْنَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ الفِعْلُ ذَرِيعَةً للفَسَادِ، وسَبِيلًا للجَريمَةِ، وهِيَ إِغَراقُ أَهْلِ السَّفِينَةِ، إِذْ قَدْ يَحصُلُ الغَرَقُ، وَقَدْ لا يَحْصلُ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ أَنَّ سَيِّدَنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، رَأَى الماءَ لا يَدْخُلُ السَّفِينَةَ بِرَغْمِ نَزْعِ الخَضِرِ لَوْحَيْنِ مِنْ خَشَبِهَا، ثُمَّ إِنَّهم قَدْ يَنْجُونَ بالسِّبَاحَةِ أَوْ بِغَيْرِها.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: النُّونُ مِنْ قَوْلِهِ: نُكْرًا هِيَ نِصْفُ الْقُرْآنِ، أَيْ نِصْفُ حُرُوفِهِ. وَهذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، فَإِنَّ نِصْفَ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ هُوَ حَرْفُ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 19، مِنَ هَذهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ: "وَلْيَتَلَطَّفْ" مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبارَكةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلامًا فَقَتَلَهُ} الفاءُ هُنَا: هِيَ الفَصِيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ، والتَقْديرُ: إِذَا عَرَفْتَ مَا تَحاورا فيهِ، وأَرَدْتَ بَيَانَ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَقُولُ لَكَ: "انْطَلَقَا .. . و "انْطَلَقَا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَأَلِفُ الاثْنَيْنِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بَهَ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ رَفعِ فاعِلِهِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولُ القولِ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ إِذَا المُقَدَّرَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "حَتَّى" حَرْفُ جَرٍّ وغَايَةٍ. و "إِذا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمانِ، مُتَعلِّقٌ خافضٌ لِشَرْطِهِ، متعلِّقٌ بجوابِهِ. وَ "لَقِيا" فِعْلٌ مَاضٍ وفاعِلُهُ، مِثْلٌ "انْطَلَقَا"، وَ "غُلامًا" مَفْعولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، والجُمْلةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِإِضَافَةِ "إِذَا" إِلَيْهَا عَلى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، والظَّرْفُ "إذا" مُتَعَلِّقٌ بالجَوَابِ الآتي بعدَهُ. و "فَقَتَلَهُ" الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وتعقيبِ. و "قَتَلَهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى الخَضِرِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصِب مَفْعولٌ بِهِ والجملةُ مَعْطَوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "لَقِيا" عَلَى كَوْنِها فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِإِضَافَةِ "إِذَا" إِلَيْهَا.
قولُهُ: {قالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُوسَى، وَالجُمْلَةُ جَوَابُ "إِذا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، وَجُمْلَةُ "إِذا" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِـ "حَتَّى" والتقديرُ: فَانْطَلَقَا إِلَى قَوْلِ مُوسَى، وَقْتَ لِقَائِهِمَا غُلامًا فَقَتْلِهُ إِيَّاهُ، وهذا الجّارُّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "انْطَلَقَا". و "أَقَتَلْتَ" الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهَامِ الإِنْكارِيِّ، و "قَتَلْتَ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وَتَاءُ الفاعِلِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. و "نَفْسًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. و "زَكِيَّةً" صِفَةٌ لِـ "نَفْسًا" مَنْصُوبَةٌ مِثْلُها، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قالَ". و "بِغَيْرِ" الباءُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَتَلْتَ" أَوْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِنَ الفَاعِلِ، أَوْ مِنَ المَفْعُولُ؛ أَيْ: قَتَلْتَهُ حالَ كونِكَ ظَالِمًا، أَوْ قَتَلْتَهُ حالَ كونِهِ مَظْلُومًا، وهوَ قَوْلُ العُكْبُرِيُّ أَبو البَقاءِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالأَصَحُّ أَنَّهَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، أَيْ: قَتْلًا بِغَيْرِ نَفْسٍ. وَ "غيرِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وهو مُضافٌ. وَ "نَفْسٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْرا} اللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "قَدْ" حَرْفٌ للتَحْقيقِ. و "جِئْتَ" فعلٌ ماضٍ وفاعلُه مثلُ "قَتَلْتَ". و "شَيْئًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. و "نُكْرًا" صِفَةٌ لِـ "شَيْئًا" منصوبَةٌ مثلُهُ، وَالجُمْلَةُ جَوَابُ القَسَمِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {زكيَّةً} بِغَيْرِ أَلِفٍ وَبِتَشْديدِ اليَاءِ وَمَنْ قَرَأَ "زَكِيَّةً" عَلَى وَزْنِ "فَعِيلَةٍ" للمُبَالَغَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ: "زَاكِيَةً". بِأَلْفٍ وَبتَخْفِيفِ ياءِ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ اسْمُ فاعِلٍ، مِنْ زَكَا يزكو، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
قَرَأَ العامَّةُ: {نُكْرًا} بِضَمَّةٍ فَسُكونٍ. وَقَرَأَ نَافِعُ، وأَبو بَكْرٍ، وابْنُ ذَكْوانَ: "نُكُرًا" بِضَمَتَيْنِ. وهُمَا لُغَتَانِ، أَوْ أَحَدُهُما هو الأَصْلُ. وَ "شَيْئًا" يَجُوزُ أَنْ يُرادَ بِهِ المَصْدَرُ، أَيْ: مَجيئًا نُكْرًا، ويَجُوزُ أَنْ يُرادَ بِهِ المَفْعُولُ بِهِ، أَيْ: جِئْتَ أَمْرًا مُنْكَرًا. وَالمُخَفَّفُ إِنَّماَ هوَ مِنَ المُثَقَّلِ، ك "العُنْقِ" و "العُنُق".