الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 33
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} كِلْتَا: اسْمٌ مُؤَنَّثٌ دَالٌّ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِالْمُثَنَّى يُفَسِّرُهُ الْمُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، فَهُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ دَالٌّ عَلَى شَيْئَيْنِ نَظِيرُ زَوْجٍ، وَمُذَكَّرُهُ (كِلَا) . قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَصْلُ كِلَا: كِلَوْ، وَأَصْلُ كِلْتَا: كِلْوَا، فَحَذَفَتْ لَامُ الْفِعْلِ مِنْ "كِلْتَا" وَعُوِّضَتِ التَّاءُ عَنِ اللَّامِ الْمَحْذُوفَةِ لِتَدُلَّ التَّاءُ عَلَى التَّأْنِيثِ. وَيَجُوزُ فِي خَبَرِ "كِلَا" وَ "كِلْتَا" الْإِفْرَادُ اعْتِبَارًا لِلَفْظِهِ، وَهُوَ الأَفْصَحُ كَمَا هو فِي هَذِهِ الْآيَةِ الكريمَةِ. وَيَجُوزُ تَثْنِيَتُهُ اعْتِبَارًا لِمَعْنَاهُ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
كِلَاهُمَا حِينَ جَدَّ الْجَرْيُ بَيْنَهُمَا ........... قَدْ أَقْلَعَا وَكِلَا أَنْفَيْهِمَا رَابِي
وذَهَبَ البَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ "كِلا" و "كلتا" اسْمٌ مُفْرَدٌ غَيْرُ مُثَنَّى. وقالَ الفَرَّاءُ: هوَ مُثَنَّى، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ "كُلّ" فَخُفِّفَتِ اللامُ، وَزيدَتِ الأَلِفُ للتَثْنِيَةِ، وَرُوعِيَتِ التَثْنِيَةُ المَعْنَوِيَّةِ فِي قَولِهِ تَعَالَى بعدَ ذلكَ: "وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهْرًا"، قالَ الفَرَّاءُ: لَمْ يَقُلِ اللهُ تَعَالَى: آتَتَا، لِأَنَّ "كِلْتَا" ثِنْتَانِ لَا تُفْرَدُ واحِدَتُهُمَا، وَأَصْلُهُ: "كُلٌّ"، فهو كَمَا تَقُولُ للثَّلاثَةِ: "كُلٌّ"، فَكَانَ القَضَاءُ أَنْ يَكونَ للثِنْتَيْنِ مَا كانَ للجَمْعِ، وَجَازَ تَوْحِيدُهُ عَلَى مَذْهَبِ "كُلّ"، وَجازَ تَأْنِيثُهُ للتَأْنِيثِ الذي فِي "كِلْتَا"، وكذَلِكَ "كِلا" وَ "كِلْتَا" و "كُلّ"، إِذَا أُضِيفَتْ إِلى مَعْرِفةٍ وَجَاءَ الفِعْلُ بَعْدَهُنْ فَيجوزُ الإِفرادُ وَالجَمْعُ، فَمِنَ الإفرادِ قولُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْدًا} الآيةِ: 95، وَمِنَ الجَمْعِ قولُهُ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ} الآية: 87، وَقَدْ تَفْعَلُ العَرَبُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي "أَي" فَيُؤَنِّثُونَ، وَيُذكِّرونَ، قَالَ تعالى مِنْ سُورَةِ لُقْمَان: {وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} الآية: 34، ويَجُوزُ فِي الكَلامِ القولُ: (بِأَيَّةِ أَرْضٍ)، وَكَذَلِكَ قولُهُ تَعَالى في الآيةِ الثامنةِ مِنْ سُورَةِ الانْفِطارِ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ}، وَيَجُوزُ فِي الكَلامِ (فِي أَيَّةِ)، ومنْ ذلكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ الفَارِسِ: عُبَيْدِ اللهِ بْنِ الحُرِّ الجُعَفِيِّ، وهوَ قائدٌ مِنَ الأَبْطالِ الشُّجْعانِ، كانَ مِنْ أَصْحابِ أَمِيرِ المؤْمنينَ عُثْمَانَ بْنِ عفَّانٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمانَ انْحَازَ إِلى مُعاوِيَةَ ـ رَضِي اللهُ عنهُما، وكانَتْ لَهُ مُنازَعَاتٌ مَعَ مِصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ يُعاتِبُهُ:
بِأَيِّ بَلاءٍ أَمْ بِأَيَّةِ نِعْمَةٍ .................... تَقَدَّمَ قَبْلي مُسْلِمٌ والمُهَلَّبُ؟
وقالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: "كِلْتَا" وإِنْ كانَ وَاقِعًا فِي المَعْنَى على اثْنَتَيْنِ، فإِنَّ لَفْظَهُ لَفْظَ وَاحِدَةٍ مُؤَنَّثَةٍ، فَغَلَبَ اللَّفْظُ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلِ المَعْنَى ثِقَةً بِمَعْرِفَةِ المُخَاطَبِ بِهِ. وَمِنَ العَرَبِ مَنْ يُؤْثِرُ المَعْنَى عَلى اللَّفْظِ، فَيَقُولُ: "كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتَا أُكُلَها"، وَيَقُولُ آخَرُونَ: "كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَى أُكُلَهُ"، لأَنَّ "كِلْتَا" تُفِيدُ مَعْنَى "كُلّ"، قَالَ الشَّاعِرُ ابْنُ مُقْبِلٍ:
هَلِ الدَّهرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُما ........ أَمُوتُ وأُخْرَى أَبْتَغِي العَيْشَ أَكْدَحُ
وَكِلْتَاهُما قَدْ خُطَّ لي فِي صَحِيفَتِي..فَلَا المَوْتُ أَهْوَى لِي وَلَا العَيْشُ أَرْوَحُ
يَعْنِي: وَكُلُّهُمَا قَدْ خُطَّ لِي، وَقَدْ قَالَتِ العَرَبُ: كُلُّكُمْ ذَاهِبٌ، وَكُلُّكُمْ ذَاهِبُونَ. فَوَحَّدُوا لِلَفْظِ "كُلَّ" وَجَمَعُوا لِتَأْويلِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّما لَمْ يَقُلْ: "آتَتَا"، لأَنَّ لَفْظَ "كِلْتَا" لَفْظُ وَاحِدَةٍ، وَالمَعْنَى: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَنَّتَيْنِ، "آتَتْ أُكُلَها" تَامًّا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ آتتا. فَإِذَا وَلِيَ "كلا" و "كلتا" اسْمًا ظَاهِرًا كَانَ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، تَقُولُ: رَأَيْتُ "كِلَا الرَّجُلَيْنِ"، وَ "جَاءَنِي كِلَا الرَّجُلَيْنِ"، وَ "مَرَرْتُ بِكِلَا الرَّجُلَيْنِ"، فَإِذَا اتَّصَلَ بِمُضْمَرٍ قُلِبَتِ الْأَلِفُ يَاءً فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ وَالنَّصْبِ، فتَقُولُ: "رَأَيْتُ كِلَيْهِمَا"، وَ "مَرَرْتُ بِكِلَيْهِمَا"، كَمَا تَقُولُ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مُثَنًّى، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كُلٍّ فَخُفِّفَتِ اللَّامُ وَزِيدَتِ الْأَلِفُ لِلتَّثْنِيَةِ. وَكَذَلِكَ كِلْتَا لِلْمُؤَنَّثِ، وَلَا يَكُونَانِ إِلَّا مُضَافَيْنِ وَلَا يُتَكَلَّمُ بِوَاحِدٍ، وَلَوْ تُكَلِّمَ بِهِ لَقِيلَ: كِلْ وَكِلْتَ وَكِلَانِ وَكِلْتَانِ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ أبي الطَيِّبِ المُتَنَبِّي يَصِفُ نَعامةً:
فِي كِلْتَ رِجْلَيْهَا سُلَامَى وَاحِدَهْ ................. كِلْتَاهُمَا مَقْرُونَةٌ بِزَائِدَهْ
قولُهُ: "السُّلامى"، كَ "حُبَارَى": عِظَامُ الأَصَابِعِ فِي اليَدِ وَالقَدَمِ. أَرَادَ فِي إِحْدَى رِجْلَيْهَا فَأَفْرَدَ. وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُثَنًّى لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَلِفُهُ فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ يَاءٌ مَعَ الِاسْمِ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّ مَعْنَى "كِلَا" مُخَالِفٌ لِمَعْنَى "كُلِّ" لِأَنَّ "كِلَا" لِلْإِحَاطَةِ، و "كِلَا" يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مَخْصُوصٍ، وَأَمَّا هَذَا الشَاعِرُ فإِنَّمَا حَذَفَ الْأَلِفَ لِلضَّرُورَةِ، وَقَدَّرَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ، وَمَا يَكُونُ ضَرُورَةً لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ حُجَّةً، فَثَبَتَ أَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ كَ (مِعًى)، إِلَّا أَنَّهُ وُضِعَ لِيَدُلَّ عَلَى التَّثْنِيَةِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ "نَحْنُ" اسْمٌ مُفْرَدٌ يَدُلُّ عَلَى اثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الشاعرِ جَرِيرِ بْنِ عَطِيَّةَ:
كِلَا يَوْمَيْ أُمَامَةَ يَوْمُ صَدٍّ ....................... وَإِنْ لَمْ نَأْتِهَا إِلَّا لِمَامَا
فَأَخْبَرَ عَنْ "كِلَا" بِيَوْمٍ مُفْرَدٍ، كَمَا أَفْرَدَ الْخَبَرَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: "آتَتْ" وَلَوْ كَانَ مُثَنًّى لَقَالَ آتَتَا، وَيَوْمًا. وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي أَلِفِ "كِلْتَا"، فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: أَلِفُ "كِلْتَا" لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنْ لَامِ الْفِعْلِ، وَهِيَ وَاوٌ وَالْأَصْلُ كِلْوَا، وَإِنَّمَا أُبْدِلَتْ تَاءً لِأَنَّ فِي التَّاءِ عَلَمُ التَّأْنِيثِ، وَالْأَلِفُ" فِي "كِلْتَا" قَدْ تَصِيرُ يَاءً مَعَ الْمُضْمَرِ، فَتَخْرُجُ عَنْ عَلَمِ التَّأْنِيثِ، فَصَارَ فِي إِبْدَالِ الْوَاوِ تَاءَ تَأْكِيدٌ لِلتَّأْنِيثِ، وقدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الْجَرْمِيُّ ـ فيما ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ: التَّاءُ مُلْحَقَةٌ وَالْأَلِفُ لَامُ الْفِعْلِ، وَتَقْدِيرُهَا عِنْدَهُ: "فِعْتَلْ"، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا زَعَمَ، لَقَالُوا فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهَا كِلْتَوِيٌّ، فَلَمَّا قَالُوا كِلَوِيٌّ، وَأَسْقَطُوا التَّاءَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَجْرَوْهَا مَجْرَى التَّاءِ فِي "أُخْتٍ"، فإِذَا نَسَبْتَ إِلَيْهَا قُلْتَ" "أَخَوِيٌّ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَأَجَازَ النَّحْوِيُّونَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، وَأَنْ تَقُولَ: "كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتَا أُكُلَهُمَا"، لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُخْتَارَ: "كِلْتَاهُمَا آتَتَا". وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ: "كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَى أُكُلَهُ"، قَالَ: لِأَنَّ الْمَعْنَى كُلَّ الْجَنَّتَيْنِ. قَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "كُلُّ الْجَنَّتَيْنِ آتَى أُكُلَهُ"، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَعَلَى هَذَا فإِنَّ الْمَعْنَى عِنْدَ الفراءِ: هو "كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْجَنَّتَيْنِ آتَى أُكُلَهُ. وَالْأُكُلُ ـ بِضَمِّ كُلٍّ مِنَ الْهَمْزَةِ والكافِ واللَّامِ: هُوَ ثَمَرُ النَّخْلِ، بَلْ وَالشَّجَرِ بِصُورةٍ عَامَّةٍ. فَإِنَّ كُلُّ مَا يُؤْكَلُ فَهُوَ "أُكُلٌ"، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى في الآيَةِ: 35، مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ: {أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّهَا}. فَالأُكُلُ هُوَ كُلُّ مَا يُؤكَلُ، لَأَنَّ الزِّراعَاتِ مُتَلاحِقَةُ الثِّمارِ مُتَّصِلةُ العَطاءِ.
قولُهُ: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} أَيْ لَمْ تَنْقُصْ مِنْ ثِمارِها شَيْئًا فِي سنةٍ مِنَ السِّنِين ـ كَمَا هِيَ عَادَةُ البَسَاتِينِ فإنَّ عَطاءَهَا مرهونٌ بتَقَلُّباتِ الطَّقْسِ، وَظُروفِ المَنَاخِ، وَوَفْرَةِ مِيَاهِ الأَمْطَارِ أَوْ قِلَّتِها، بَلْ كانتْ ثِمَارُ جنَّتُهُ تُأْتي كَامِلةً وَافِيةً مَوْفُورًا غيرَ مَنْقُوصَةٍ، كُلَّ عامٍ بانْتِظَامٍ، لِأَنَّ مياهَها كانتْ وَفِيرةً، فَالنَّهْرَ الذي فَجَّرَهُ اللهُ خِلَالَهَا يَرْويها بانْتِظامٍ دائمًا، فلَمْ يَخْتَلِفْ عامٌ عَنْ عامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا" قَالَ: لَمْ تَنْقُصْ، كُلُّ شَجَرِ الْجَنَّةِ أَطْعَمَ.
وَفِي اللُّغَةِ يُقَالُ: ظَلَمَ فُلانٌ فُلانًا حَقَّهُ، إِذَا أَنْقَصَهُ شَيْئًا مِنُهُ ولمْ يعْطِهِ إِيَّاهُ كامِلًا، وَمِنْ ذِلِكَ قَوْلُ الشَّاعرِ: أَبي زُبَيْدٍ الطائيِّ، وَهُوَ حَرْمَلَةُ بْنُ المُنْذِرِ النَّصْرانيِّ:
وَيَظْلِمَني مَالي كَذَا وَلَوى يَدِي ............ لَوَى يَدَهُ اللهُ الَّذي هُوَ غَالِبُهْ
فِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ بِحَذْفِ مُضَافٍ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْ مِقْدَارِ أَمْثَالِهِ. وَقَدِ اسْتُعِيرَ الظُّلْمُ لِلنَّقْصِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، وَذَلِكَ بِتَشْبِيهِ هَيْئَةِ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ فِي تَرَقُّبِ إِثْمَارِهِمَا بِهَيْئَةِ مَنْ صَارَ لَهُ حَقٌّ فِي وَفْرَةِ غَلَّتِهَا بِحَيْثُ إِذَا لَمْ تَأْتِ الْجَنَّتَانِ بِمَا هُوَ مُتَرَقَّبٌ مِنْهُمَا، أَشْبَهَتَا مَنْ حَرَمَ ذَا حَقٍّ حَقَّهُ كُلَّهُ أَوْ بعضَهُ فَظَلَمَهُ، فَاسْتُعِيرَ الظُّلْمُ لِإِقْلَالِ الْإِغْلَالِ، وَاسْتُعِيرَ نَفْيُهُ لِلْوَفَاءِ بِحَقِّ الْإِثْمَارِ.
وَقد وَصْفَ الجَنَّتَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ للإِشْعَارِ بِأَنَّهُمَا عَلَى خِلافِ مَا هي عادةُ سَائِرِ البَساتِينِ، فَهيَ ـ فِي الغَالِبِ، تَكْثُرُ فِي عَامٍ، وَتَقِلُّ فِي عَامِ.
ولَا "تَظْلِم" الأَرْضُ، أَيْ: لا تَمْنَعُ حَقًا، وَلَا تَهْدِرُ تَعَبًا، فإِنْ أَعْطَيْتَها جُهْدَكَ وَعَمَلَكَ جَادَتْ عَلَيْكَ. تَبْذُرُ فِيهَا فَتُعْطِيكَ أَضْعافَ ما بَذَرْتَ فيها حتَّى إِنَّ هذهِ المُضاعفةَ قدْ تبلُغُ الآلافَ، فَهِيَ جَوَادَةٌ كَريمَةٌ، كَما، قالَ الحَقُّ ـ سُبْحَانَهُ، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {مَّثَلُ الذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ} الآيةَ: 261، فإِذا كَانَتِ الأَرْضِ تُعْطِيكَ بالحَبَّةِ سَبْعَمِئَةٍ، فَمَا بَالَكَ بِخَالِقِ الأَرْضِ؟. لَا شَكَّ أَنَّ عَطاءَهُ سَيَكُونُ أَعْظَمَ؛ ولِذَلِكَ قَالَ في الآيةِ نفسِها: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}.
وَمِنْ عَدْلِ الأَرْضِ، وعَدَمِ جَوْرِها وَظُلْمِهَا لِبَنِي أَنْها تُعْطيهم عَلَى قَدْرِ تَعَبِهم فوقها وَكَدِّهم فِيهَا، والحَقُّ ـ سُبْحَانَهُ، أَيْضًا يُقَدِّرُ لَهم هَذَا التَعَبَ، وَيَشْكُرُ لهم هَذَا الجُهْدَ والعَنَاءَ، فقد قالَ في الآية: 105، مِنْ سُورَةِ التَوْبَةِ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. وقال في الآيةِ: 30، مِنْ هذِهِ السُّورَةِ المُبارَكَةِ: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلً}، وقالَ منْ سورةِ الأنبياءِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُون} الآيةَ: 94. وكذلكَ رسولُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُحِبُّهُ ويَقْدُرُ لهُ جُهْدَهُ ويُبَشِّرُهُ بالجزاءِ الأَوْفَى مِنْ رَبِّهِ ـ سُبْحانَهُ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قالَ: ((مَنْ أَمْسَى كَالًّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ أَمْسَى مَغْفُورًا لَهُ)). وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا: الإمامُ الطَبَرَانِيُّ في مُعجَمِهِ الأَوْسَطِ: (7/289، برقم: 7520). وذَكَرَ الإمامُ الشعراويُّ في تفسيرِهِ أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، صافحَ يَدًا خَشِنَةً قَدِ اشَّقَّقَتْ مِنْ مَشَقَّةِ العَمَلِ فقال: ((هَذِهِ يَدٌ يُحِبُّها اللهُ ورسولُهُ)).
قولُهُ: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} ذَلِكَ لأَنَّ الماءَ هُوَ أَصْلُ الزَّرْعِ، بَلْ أَصْلُ الحَيَاةِ كُلِّها لقولِهِ تَعَالى في الآيَةِ: 30، مِنْ سُورَةِ الأَنْبِياءِ ـ عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُون}. وقد فجَّرَ اللهُ لِهاتَيْنِ الجَنَّتَيْنِ ماءً مَخْصُوصًا يَخْرُجُ مِنْهُمَا وَيَتَفَجَّرُ مِنْ خِلالِهِمَا، لَا يَأْتِيهِمَا مِنَ خَارِجٍ، فَيَحْجُبُهُ عَنْهُمَا أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهرًا" قالَ: يَقُولُ: وَسَطِهِمَا. فقدْ أَعْلَمَنَا ـ تعالى، أَنَّ شُرْبَهُما كانَ مِنْ مَاءِ نَهْرٍ، وَهُوَ مِنْ أَغْزَرِ الشُّرْبِ. وَقالَ الفَرَّاءُ: إِنَّمَا قَالَ: "فَجَّرْنَا" بِالتَّشْديدِ، وَهُوَ نَهَرٌ وَاحِدٍ، لِأَنَّ النَّهْرَ يَمْتَدُّ، فَكانَ التَّفَجُّرُ فِيهِ كُلِّهِ.
قوْلُهُ تَعَالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} كِلْتَا: مَرْفُوعٌ بِالابْتِداءِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى الأَلِفِ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى ظاهِرٍ، وَقَدْ حُذِفَتْ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ مَقْصُورٌ. فَهُوَ مُضافٌ. وَ "الْجَنَّتَيْنِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ مُثَنَّى، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التَنْوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. و "آتَتْ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّرِ على آخرِهِ لتعذُّرِ ظهورِهِ على الألِفِ المحذوفةِ لالْتقاءِ الساكنَيْنِ، والتاءُ السَّاكِنَةُ هَذِهِ هي لِتَأْنِيثِ الفاعِلِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تَقْديرُهُ (هي) وهو عائدٌ عَلَى "كِلْتَا". وَ "أُكُلَها" مَفْعُولٌ بِهِ ثَانٍ لِـ "آتَى"، مَنْصُوبٌ، والمفعولُ الأَوَّلُ مَحْذوفٌ، والتَقْديرُ: آتَتْهُ أُكُلَهَا؛ لِأَنَّ الفعلَ "آتَى" جاءَ هُنَا بِمَعْنَى "أَعْطَى". والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، وَقَدْ رُوعِيَ لَفْظُ "كِلْتَا" فَأَتَى الخَبَرُ مُفْرَدًا، وَرُوعِيَتِ التَثْنِيَةُ المَعْنَوِيَّةُ في قَوْلِهِ: "وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً لِـ "جَنَّتَيْنِ" فِي قَوْلِهِ: "جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ"، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، اسْتِئْنافًا بَيَانِيًا لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "لَمْ" حرفُ جَزْمٍ ونفيٍ وقَلْبٍ. و "تَظْلِمْ" فعلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِهِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هي) يَعُودُ عَلَى "كِلْتَا". و "مِنْهُ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "شَيْئًا"، لِأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِمَتْ عَلَيْهَا، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ "شَيْئًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ لِـ "تَظْلِمْ"، أَوْ هو مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "آتَتْ" على كونِها في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ "كِلْتَا".
قوْلُهُ: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "فَجَّرْنا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ، و "نَا" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. و "خِلالَهُما" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ المَكانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "فَجَّرْنا"، وهو مُضافٌ، و "هُما: ضَمِيرُ التَثْنِيَةِ مُتَّصِلٌ بِهِ، فيِ مَحَلِّ الجرِّ بِالإضافةِ إِلَيْهِ. و "نَهَرًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هّذِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "آتى" عَلى كَوْنِها في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ "كِلْتَا".
قرأَ الجُمْهُورُ: {كِلْتا الجنَّتينِ آتَتْ} بالتَأْنِيثِ، وقدْ تقدَّمَ توجيهُ هذِهِ القراءةِ في مبحثِ التفسيرِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مسعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، "كِلَا الجَنَّتَيْنِ" بِالْتَذكيرِ لأَنَّ التَأْنِيثَ هنا مَجَازِيٌّ. وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مُصْحَفِهِ، ثُمَّ قَرَأَ "آتَتْ" بِالتَأْنِيثِ اعْتِبارًا بِلَفْظِ "الجَنَّتَيْنِ" فَهُوَ نَظَيرُ قولِهم: "طَلَعَ الشَّمْسُ وَأَشْرَقَتْ" ورَوَى الفَرَّاءُ عَنْهُ قِراءَةً أُخْرَى هيَ: "كُلُّ الجَنَّتَيْنِ آتَى أُكُلَهُ" فَأَعادَ الضَّمِيرَ عَلَى لَفْظِهِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {وَفَجَّرْنَا} بِتَشْديدِ الجيمِ، وَإِنَّما قالَ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ كانَ نَهْرًا وَاحِدًا مُبَالَغَةً فِيهِ لغزارَةِ مِياهِهِ وعَظيمِ نَفْعِهِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وأَبُو رَزين، وأَبو مِجْلَزٍ، وأَبو العالِيَةِ، وابْنُ يَعْمُرَ، وابْنُ أَبي عَبْلَةَ: بِالتَّخْفيفِ وَهِيَ قِراءَةُ الأَعْمَشِ فِي سُورَةِ القَمَرِ، والتَّشْديدُ هُنَاكَ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ "عُيُونًا".
قَرَأَ العَامَّةُ: {نَهَرًا} بِفَتْحِ الهاءِ. وَقَرَأ أَبُو العالِيَةِ، وَأَبُو عِمْرانَ، وأَبُو السَّمَّالِ، والفَيَّاضُ "نَهْرًا" بِسُكُونِها.
قرأَ الجُمهورُ: {خِلالَهُمُا} أيْ: وَسَطَهُما، وَقَرأَ أَبُو مِجْلَزٍ، وَأَبُو المُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ الْبَصْرِيُّ، عَلِيُّ بْنُ دُؤَاد: "خِلَلَهُما".