قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} قالَ: القائلُ هُوَ سيِّدُنا موسى ـ عَلى نَبِيِّنا وعَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والْإِشَارَةُ بِـ "ذلِكَ" إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ خَبَرُ فَتَى مُوسَى مِنْ فَقْدِ الْحُوتِ، وَالْمُبْتَغَى هُوَ لِقَاءُ الْخَضِرِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُفْقَدُ فِيهِ الْحُوتُ، وَقَدْ كَانَ ضَياَعُ الحُوتِ وَسِيلَةَ الوُصولِ إِلَى ذَلِكَ الْمُبْتَغَى. فَقَدْ أَرادَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِقَوْلِهِ: "ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} هو انْسِرابُ الحُوتِ؛ لأَنَّ هَذَا جَوَابُ قَوْلِ فتاهُ يُوشَعَ حِينَ أَخْبَرَهُ بِما كانَ مِنْ أَمْرِ الحُوتِ، أَيْ: ذَلِكَ ما نَطْلُبُ ونُريدُ مِنَ العَلامَةِ، عَلَى مكانِ اللقاءِ مَعَ الخَضِرِ ـ عَليْهِ السَّلامُ، انظُر: "مَعَاني القُرْآنِ وإعرابُهُ" للزَّجَّاجِ: (3/300)، و "مَعَاني القرْآنِ" للفَرَّاءِ: (2/155).
وَالنُّونُ في "نَبْغِ" هي نُونُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ، أَيْ مَا أَبْغِيهِ أَنَا وَأَنْتَ، فَكِلَاهُمَا كان يَبْغِي مُلَاقَاةَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ الخَضِرَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، فيما رَواهُ عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: (أَيْ هَذِهِ حَاجَتُنا). تفسير "الكشف والبيان" للثعلبي: (3/391)، وبَحْرُ العُلوم للسَّمَرْقَنْدِي: (2/306).
قولُهُ: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} الِارْتِدَادُ: هُوَ العَوْدُ والرُّجوعُ، فَكَأَنَّما رَدَّهُمَا رَادٌّ، وأَرْجَعَهُما مُرْجِعٌ، وهُوَ مِنَ الرَّدِّ، أَيِ: الإرْجاعِ والإِعادَةِ، وَإِنَّمَا الذي رَدَّهُمَا هوَ إِرَادَتُهُمَا. أَيْ: رَجَعَا وَعَادَا عَلَى آثَارِ سَيْرِهِمَا السَّابِقِ، عَوْدَهُما عَلَى بِدْئِهِمَا في طَرِيقِهِمَا الَّذِي كانَا أَتَيَا مِنْهُ، حَتَّى انْتَهَيا إِلَى الصَّخْرَةِ التي كانَ عِنْدَهَا ما كانَ مِنْ أمْرِ الحُوتِ، وَقَدْ أَبْصَرَ مُوسَى أَثَرَ الحُوتِ فانْطَلَقَا أَثَرِهِ يَمْشِيَانِ عَلَى سَطْحِ المَاءِ المُتَجَمِّدِ حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى حيثُ وَجَدَا الخَضِرَ في جَزيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ البَحْرِ، إِذًا فقَدْ قَصَّا آثارَهُما وآثارَ الحُوتِ قَصَصًا.
وَالقَصَصُ: مَصْدَرٌ للفِعْلِ قَصَّ، مِنْ: قَصَّ يَقُصُّ قَصَصًا، يقالُ: قَصَّ، واقْتَصَّ، وتَقَصَّصَ، الأثَرَ إذا تَتَبَّعَهُ، والمُرادُ بِهِ قَصُّ الْأَثَرِ، أَيْ: تَوَخَّيا مُتَابَعَةَ آثارِ أَقَدامِهِمَا كَيْلَا يُخْطِئَا طَرِيقَهما الْذي كانَا سَلَكَاهُ حَتَّى لا يَضِلَّا الطَّريقَ. وَقَصَّ عَلَيْهِ الخَبَرَ قَصَّا وقَصَصًا، والقَصَصُ (بالفَتْحِ): الاسْمُ مِنْهُ، فَقَدْ وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَرِ حَتَّى صَارَ أَغْلَبَ عَلَيْهِ. والقِصَّةُ بِكَسْرِ القَافِ: الأَمْرُ، والحَديثُ، يُجْمَعُ عَلَى "قِصَصٍ"، وَجَمْعُ القِصَّةِ التي تُكْتَبُ أَيْضًا، وَاقْتَصَصْتُ الحديثَ: رَوَيْتُهُ عَلَى وَجْهِهِ. والقِصاصُ: القَوَدُ. وَأَقَصَّ الأَمِيرُ فلانًا مِنْ فُلانٍ: اقْتَصَّ لَهُ مِنْهُ فَجَرَحَهُ مِثْلَ ما جَرَحَهُ هُوَ، أَوْ قتَلَهُ قَوَدًا. وَتَقاصَّ القَوْمُ، قاصَّ كُلٌّ مِنْهمْ صاحِبَهُ. وَأَقَصَّهُ مِنَ المَوْتِ: أَدْنَاهُ مِنْهُ. وَقَصَّهُ المَوْتُ وأَقَصَّهُ بِمَعْنًى، أَيْ: دَنَا مِنْهُ. وَقَصَصْتُ الشَعرَ: قَطَعْتُهُ أَوْ قَصَّرتُهُ. وطائرٌ مَقْصوصُ الجَنَاحِ. والمِقَصُّ: المِقْراضُ، ويثنَّى فيقالُ: مِقَصَّانِ، ويُجْمعُ عَلَى مِقصَّاتٍ. وقُصاصُ الشَعْرِ، وقَصاصُهُ، وقِصاصُهُ: حَيْثُ تَنْتَهي نَبْتَتُهُ مِنْ مُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ، والضَّمُ أَعْلَى. والقَصيصَةُ: نَبْتٌ يَخْرُجُ إِلى جانِبِهِ الكَمَأَةُ، والجَمْعُ قَصِيصٌ. وأَقَصَّتِ الأرضُ، أَنْبَتَتْهُ. وأَقَصَّتِ الشاةُ أَيْضًا، وَالفَرَسُ: اسْتَبانَ حَمْلُها، فَهِيَ مُقِصٌّ مِنْ خَيْلٍ مَقاصَّ، والقَصِيصَةُ مِنَ الإِبِلِ: الزَّامِلَةُ الضَّعيفةُ، فيُحْمَلُ عَلَيْها الطَّعامُ وَالمَتَاعُ فَقَط. وَالقَصُّ، والقَصَصُ: رَأْسُ عِظَامِ الصَّدْرِ، للشَّاةِ والطائرِ وغَيرِهما. وَفي لُغَةٌ الحِجازيِّينَ القَصَّةُ: الجِصُّ، يُقالُ قَصَّصَ دارَهُ، أَيْ: جَصَّصَهَا. وَالقُصَّةُ بِالضَّمِّ: شَعْرُ الناصِيَةِ.
قولُهُ تَعَالى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} قالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيَانيًّا لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ. و "ذلِكَ" ذا: اسْمُ إشارةٍ مَبْنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطابِ. و "ما" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السَّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قالَ". و "كُنَّا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" جماعةِ المُتَكَلِّمينَ، و "نا" هذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرفعِ اسْمُ "كان". وَ "نَبْغِ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى آخِرِ لثِقَلِها على الياءِ المَحْذُوفَةِ ـ عندَ مَنْ حذَفَها، وَذَلِكَ اتِّباعًا لِرَسْمِ المُصْحَفِ العُثْمَانِيِّ الكريم، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُعْتَلُّ الآخِرِ بالياءِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحن) يَعُودُ عَلى مُوسَى وَفَتَاه، وَجُمْلَةُ "نَبْغِ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرًا لِـ "كان"، وَجُمْلَةُ "كَانَ" صِلَةُ "مَا" المَوْصُولَةِ فلا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ مَحْذوفٌ، والتَقْديرُ: مَا كُنَّا نَبْغِيهِ.
قوْلُهُ: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} الفاءُ: عاطفةٌ، و "ارْتَدَّا" فِعلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى الفتحِ، وأَلِفُ الاثنيْنِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "عَلى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ارْتَدَّا"، و "آثارِهِما" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، و "قَصَصًا" منصوبٌ على أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الحالِ، أَيْ: قاصِّيْنَ. ويجوزُ: أَنْ يُنْصَبَ بِفِعلٍ مِنْ لِفْظِهِ مُقَدَّرٍ، أَي: يَقُصَّانِ قَصَصًا. ويجوزُ أَنَّه مَنْصُوبٌ بِـ "ارْتَدَّا"، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: "فَقَصَّا". والجُمْلَةُ مَعْطوفةٌ عَلى جُملةِ "قالَ" عَلَى كونِها مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنافًا بَيَانيًّا لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قرَأَ الجُمْهورُ: {نَبْغِ} فحَذَفوا الياءَ وَصْلًا وَوَقْفًا اتِّباعًا للرَّسْمِ العُثْمانيِّ. وَكانَ مِنْ حَقِّها الثُّبوتُ، وَإِنَّما حُذِفَتْ تَشْبِيهًا لها بالفَوَاصِلِ، أَوْ لِأَنَّ الحَذْفَ يُؤْنِسُ بِالحَذْفِ فَإِنَّ "ما" هُنَا مَوْصُولَةٌ وعائدُها محذوفٌ، وهَذِهِ بِخِلافِ التي في قولِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} الآية: 65، فَإِنَّها ثَابِتَةٌ عِنْدَ الجَميعِ، وقَرَأَ: نافعٌ وَأَبُو عَمْرٍو والكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: "نَبْغي" فأَثْبَتُوها وَصَلًا وحَذَفوهَا وَقْفًا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثيرٍ ويعقوبُ "نَبْغِي" فَأَثْبَتَها في الحالَيْنِ.